نيويورك – بيروت – الناس نيوز :
قالت “هيومن رايتس ووتش ” اليوم إن تقاعس الحكومة السورية عن معالجة أزمة الخبز، الناجمة عن عقد من النزاع المسلح، بصورة عادلة وملائمة يدفع بملايين السوريين نحو الجوع.
أدت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، إلى جانب التدمير الكبير للبنية التحتية من قبل الحكومة السورية وحلفائها في المقام الأول طوال عقد من النزاع، إلى نقص حاد في القمح. فاقمت الحكومة السورية الأزمة، إذ سمحت بالتمييز في توزيع الخبز، إلى جانب الفساد والقيود على كمية الخبز المدعوم التي يمكن للناس شراؤها، وهي عوامل أدت إلى الجوع.
ونقلت “هيومن رايتس ووتش ” في بيانها الذي تلقت نسخة عنه جريدة ” الناس نيوز الأسترالية الإلكترونية نسخة عنه قول الباحثة سارة كيالي، باحثة سوريا في هيومن رايتس ووتش: “يقول المسؤولون السوريون إن ضمان حصول الجميع على ما يكفي من الخبز هو أولوية، لكن أفعالهم تظهر عكس ذلك. الملايين في سوريا يعيشون الجوع، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى تقصير الحكومة في معالجة أزمة الخبز التي ساهمت في خلقها”.
راجعت هيومن رايتس ووتش البيانات الحكومية، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وتقارير المنظمات الإغاثية. بالإضافة إلى ذلك، تحدثت هيومن رايتس ووتش إلى عشرة من سكان المناطق السورية التي تسيطر عليها الحكومة، بينهم اثنان من أصحاب المخابز، وأربعة عمال إغاثة، في محافظات دمشق، وريف دمشق، وحلب، وحماه، وحمص، والسويداء. وصف جميعهم الصعوبات المتزايدة في الحصول على الخبز والمواد الغذائية الأخرى.
لطالما كان الخبز غذاء أساسيا في سوريا. قبل2011، كانت البلاد تنتج ما يكفي من القمح لتلبية الاستهلاك المحلي. كان الأشخاص ذوو الدخل المحدود خصوصا يميلون إلى الاعتماد على الخبز باعتباره أرخص المواد الغذائية وأكثرها إشباعا، بحسب ما قال السكان وموظفة الإغاثة لـ هيومن رايتس ووتش. لكن النزاع المسلح أدى إلى انخفاض إنتاج القمح المحلي، وفي الوقت نفسه دفع الملايين إلى الفقر، ما جعلهم أكثر اعتمادا على الخبز في نظامهم الغذائي.
وفق دراسة نشرتها “جامعة هومبولت” في 2020، خسرت سوريا 943 ألف هكتار من الأراضي المزروعة بين 2010 و2018، بسبب العمليات العسكرية، وتهجير المزارعين وعمال المزارع، وسوء إدارة موارد الدولة، والتكاليف المرتبطة بالنزاع، بما في ذلك تغير الجهات المسيطرة على أجزاء من البلاد. كانت بعض الخسائر في الأراضي بسبب الضربات الجوية غير القانونية التي شنها التحالف العسكري السوري-الروسي، والتي تصاعدت في 2015 ويرقى بعضها إلى ما يبدو أنها جرائم حرب. لم تقتصر الضربات على تدمير الأراضي الزراعية فحسب، بل دمرت أيضا مخابز عدة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة آنذاك.
العام الماضي، واجهت الحكومة السورية عقبات كبيرة في قدرتها على شراء واستيراد القمح، سواء من الخارج أو المناطق السورية الخاضعة للسيطرة الكردية التي تشكل معظم الأراضي المزروعة. الانخفاض الحاد في قيمة العملة السورية، الناجم عن مزيج من العوامل، منها الأزمة المالية اللبنانية والمخاوف بشأن الإعلانات المتعلقة بالعقوبات الأمريكية الجديدة، أثّر على القدرة الشرائية في جميع أنحاء البلاد.
منعت الضوابط على رؤوس الأموال في المصارف اللبنانية رجال الأعمال السوريين، بمن فيهم وسطاء للحكومة لشراء القمح، من التصرف بالأموال في المصارف اللبنانية. أيضا، فرضت روسيا، حليفة سوريا الرئيسية ومزودتها الأساسية بالقمح المستورد، قيودا على صادراتها من القمح، بما فيها تلك المتجهة إلى سوريا. قد يكون للعقوبات الأمريكية أحادية الجانب أيضا تأثير غير مباشر على الأزمة من خلال تأثيرها على تخفيض قيمة العملة والعقوبات المتعلقة بالوقود.
في 24 فبراير/شباط 2021، أفادت وسائل الإعلام أن تركيا ستسلم عدة مئات أطنان من القمح إلى سوريا، من خلال صفقة بوساطة روسية بحسب تقارير. في 26 فبراير/شباط، قالت وسائل إخبارية تابعة للحكومة إن القمح يتم استيراده من روسيا، كجزء من صفقة مليون طن، رغم عدم تأكيد ذلك من قبل أي مصدر رسمي. مع ذلك، فإن ما تمارسه الحكومة السورية من تمييز، وسياسات جديدة متعلقة بالخبز، وفساد يمس مباشرة بقدرة العائلات على تأمين ما يكفي من الخبز، بحسب هيومن رايتس ووتش.
حتى فبراير/شباط، كان 12.4 مليون سوري على الأقل، من بين عدد السكان المقدر بحوالي 16 مليون، يفتقرون إلى الأمن الغذائي، بحسب “برنامج الأغذية العالمي”، بزيادة مقلقة قدرها 3.1 مليون في عام واحد. تقدر “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ” (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي أن 46% من الأسر السورية قللت حصصها الغذائية اليومية، وخفّض 38% من البالغين استهلاكهم لضمان حصول الأطفال على ما يكفي من الطعام.
توفر الحكومة السورية الدقيق والوقود المدعومين للمخابز الحكومية، التي تبيع بدورها بعد ذلك الخبز بسعر مدعوم. في سبتمبر/أيلول، أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” عن صيغة جديدة تحد من كمية الخبز المدعوم من الحكومة التي يمكن للناس شراؤها على أساس عدد أفراد الأسرة. في 29 أكتوبر/تشرين الأول، ضاعفت الحكومة السورية سعر الخبز المدعوم.
قال سكان يعانون أصلا من نقص حاد في الغذاء لـ هيومن رايتس ووتش إن هذه السياسة جعلت الأمور أسوأ. وفقا للأشخاص الذين تمت مقابلتهم وبيانات الأمم المتحدة، فقد خفضت العائلات عدد وجباتها وأصبح الأمهات والآباء يجوعون لإطعام أطفالهم. قال رجل من الزبداني إن أسرته المكونة من أربعة أفراد توقفت عن تناول الجبن واللحوم في وقت سابق من 2020 واعتمدت على الخبز في معظم نظامها الغذائي. ولكن مع زيادة الأسعار والقيود الحكومية، فقد اكتفى هو وزوجته بوجبة صغيرة واحدة في اليوم ليأمنا ما يكفي من الخبز لأطفالهما. قال: “نقسم الخبز إلى قطع صغيرة ونغمسه في الشاي لجعله يبدو أكبر، ولأن النوعية سيئة للغاية”.
كما وصف السكان التمييز في التوزيع، ففي بعض المناطق توجد طوابير منفصلة لكل من الجيش والأمن، والسكان، والنازحين، الذين لهم الأولوية الأدنى. يقول تقرير صادر عن “معهد نيوزلاينز” إن الأجهزة الأمنية السورية تتدخل في توزيع الخبز والقمح، بما يشمل أخذ الخبز من المخابز وبيعه في السوق السوداء.
يمكن للأسر الميسورة شراء “الخبز السياحي”، ذي الجودة الأفضل وغير المدعوم، بكميات أكبر، أو شراء الخبز من السوق السوداء، حيث يكون سعره أعلى بـ 150 % على الأقل من الخبز المدعوم. قال ثلاثة من السكان إن الأفران التي تبيع الخبز السياحي لديها إمدادات منتظمة، لكن المخابز الحكومية قد لا تتمكن من إنتاج الخبز لأيام. قال أحد السكان: “يمكنني العثور على الخبز في أي مكان أريده، ولكن ذلك لأن لدي المال لأدفع ثمنه”.
دُمرت العديد من المخابز أو أصبحت غير صالحة للعمل أثناء النزاع، ولكن من الصعب تأكيد العدد الدقيق المتضرر. تزعم وزارة الصناعة والتجارة أن التركيز على إعادة التأهيل أدى إلى زيادة عدد المخابز القابلة للتشغيل إلى 178 في 2019، مقارنة بـ 65 عام 2016. لكن السكان وعمال الإغاثة في العديد من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة قالوا إن تقريبا نصف المخابز في تلك المناطق ظلت مدمرة أو متضررة، ما أجبر الناس على التنقل مرورا بنقاط التفتيش أو الانتظار في المخابز المكتظة حيث لا يوجد في كثير من الأحيان ما يكفي من الخبز للجميع في الطابور.
بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، يشكل الحق في الغذاء جزءا من حق كل فرد في مستوى معيشي لائق. ويتم “إعمال الحق في الغذاء عندما يتاح ماديا واقتصاديا لكل رجل وامرأة وطفل بمفرده، أو مع غيره من الأشخاص، في كافة الأوقات، سبيل الحصول على الغذاء الكافي أو وسائل شرائه”. يتكون هذا الحق من أربعة مكونات رئيسية: التوافر، وإمكانية الوصول، والكفاية، والاستدامة، والتي تتطلب توفير الغذاء “بكمية ونوعية تكفيان كافية لتلبية الاحتياجات التغذوية للأفراد وخلو الغذاء من المواد الضارة وكونه مقبولا في سياق ثقافي معين”، وجعل الغذاء متاحا “بطرق تتسم بالاستدامة ولا تعطل التمتع بحقوق الإنسان الأخرى”.
قالت هيومن رايتس ووتش إن الحكومة ملزمة بمراجعة القيود على كمية الخبز المدعوم التي يمكن للأسر الحصول عليها حتى لا تجوع، وتقديم دعم إضافي للأسر غير القادرة على تحمل تكاليف المواد الغذائية الأساسية. على الحكومة أن تضع حدا لانتهاكات أجهزتها الأمنية، بما فيها تدخلها التمييزي في توزيع الخبز والطحين. على روسيا أن تزود سوريا بالقمح، بصفتها حليف أساسي لسوريا ولديها مسؤولية مشتركة عن العمليات العسكرية التي ساهمت في الأزمة الجارية.
بموجب القانون الإنساني الدولي، فإن روسيا، بصفتها طرف في النزاع في سوريا، مسؤولة عن تقديم تعويضات عن الانتهاكات التي كانت ضالعة فيها، بما في ذلك رد الحقوق والتعويض عن الخسائر، والتي قد تشمل إصلاح المخابز وسلاسل التوريد، أو توفير صادرات القمح بالقدر الذي يغطي خسارة الأراضي الزراعية المحترقة/البنية التحتية المدمرة التي كانت روسيا مسؤولة عنها.
على الدول المعنية، بما فيها الجهات المانحة للأمم المتحدة والوكالات الإنسانية الأخرى التي تعمل على إصلاح الأفران المدمرة، أن تضمن محاسبة الأطراف المسؤولة عن تدمير المخابز والأراضي الزراعية الصالحة على أعلى المستويات. عليها ضمان توجيه رسالة واضحة وعلنية مفادها أن التوزيع التمييزي للغذاء غير مقبول.
قالت الكيالي: “القيود التي تفرضها سياسات الحكومة السورية بمواجهة أزمة الخبز تزيد الأمور سوءا، ما أدى إلى ظهور سوق سوداء تخدم الأغنياء ومن لديهم ́واسطة̀. على الحكومة السورية ضمان توزيع الخبز بكميات ونوعيات ملائمة على كل من يحتاج إليه في جميع المناطق التي تسيطر عليها”.
أزمات القمح في سوريا
قبل 2011، كانت سوريا تتمتع بالاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح، بمتوسط بين 3.5 و4.1 مليون طن سنويا، رغم صعوبة العثور على أرقام دقيقة. يعتمد القمح المزروع في سوريا بشكل كبير على المياه. أدت الهجمات على الأراضي الصالحة للزراعة والتهجير، إلى جانب التغييرات في مناطق سيطرة الحكومة وتدمير البنية التحتية، إلى خفض كمية القمح التي تستطيع سوريا إنتاجها بأكثر من النصف، ما أدى إلى اعتماد كبير على واردات القمح.
وفقا للنشرة الاقتصادية المتخصصة “سيريا ريبورت”، في 2020 ، تمت زراعة 72% من القمح السوري في مناطق تسيطر عليها حاليا السلطات بقيادة الأكراد. أدت حروب المزايدات على الشراء بين الحكومة السورية والسلطات التي يقودها الأكراد إلى ترك كميات أقل من القمح المتاح للحكومة، لا سيما وأن معظم المزارعين يفضلون البيع محليا. في 2020، دمرت حرائق المحاصيل حوالي 35 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الخاضعة لسيطرة الحكومة، ما فاقم الأزمة.
في أبريل/نيسان 2019، أقرت سوريا قانونا لدمج ثلاث مؤسسات عامة لتجارة وإنتاج الحبوب، وإدارة الصوامع، والمطاحن في مؤسسة جديدة، وهي “المؤسسة العامة للحبوب”، التي تتحمل الآن المسؤولية الأساسية عن استيراد وتوزيع القمح ومنتجاته.
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلن مدير المؤسسة العامة للحبوب أن هناك ما يكفي من القمح لجميع المخابز في جميع المناطق السورية التي تسيطر عليها الحكومة لإنتاج الخبز في حدود طاقاتها. قال سكان في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، بما فيها ريف دمشق وحلب ، لـ هيومن رايتس ووتش في ديسمبر/كانون الأول إن الخبز المتوفر كانت نوعيته رديئة ويكاد يكون غير صالح للأكل.
في 24 فبراير/شباط 2021، كجزء من صفقة بوساطة روسيا، زودت تركيا الحكومة السورية بمئات الأطنان من القمح. وروسيا هي ثاني دولة مصدرة للقمح في العالم وكانت المصدر الرئيسي للقمح إلى سوريا. لكن من منتصف 2019 حتى فبراير/شباط 2021، لم تتمكن الحكومة السورية من شراء القمح من الخارج، نظرا لـ “قيود التمويل” التي تزعم الحكومة أنها تواجهها. طلبت المناقصات السورية للقمح في 2019 و2020 قمحا روسي المصدر بشكل أساسي. لكن القيود التي فرضتها الحكومة الروسية على مبيعات القمح خلال تفشي فيروس “كورونا” صعّبت على الدول شراء القمح من روسيا، حتى لحلفائها العسكريين. وأعلنت عن سقف 7 ملايين طن على صادرات القمح والحبوب الأخرى إلى دول أخرى في أبريل/نيسان 2020، ثم قالت في نوفمبر/تشرين الثاني إنها تمدد هذه القيود.
في 26 فبراير/شباط 2021، قالت وسائل إعلامية تابعة للحكومة إن القمح يتم استيراده من روسيا، كجزء من صفقة مليون طن، على الرغم من عدم تأكيد أي مصدر رسمي ذلك.
“قيود التمويل” على الحكومة السورية
في أكتوبر/تشرين الأول – نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بدأت قيمة الليرة السورية تنخفض بشكل كبير. انخفض سعر الصرف من حوالي 600 ليرة سورية للدولار الأمريكي إلى حوالي 900 ليرة سورية، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى عوامل عدة، منها الأزمة الاقتصادية اللبنانية، ولكن كان ذلك أيضا رد فعل على مخاوف بشأن الإعلانات المتعلقة بعقوبات “قيصر” الأمريكية.
في ديسمبر/كانون الأول 2019 ، وكجزء من “قانون تفويض الدفاع الوطني”، أقر “مجلس الشيوخ” الأمريكي “قانون قيصر”، الذي عزز ووسع العقوبات المفروضة أصلا على سوريا والكيانات التابعة لها. نص مشروع القانون على تجميد محدد الأهداف للأصول والتأشيرات وحظر على دخول الولايات المتحدة، وهي إجراءات طالت الأفراد المتواطئين في انتهاكات حقوقية جسيمة ضد المواطنين السوريين. شمل القانون كذلك عقوبات على قطاعات معينة، مثل النفط والغاز، والتكنولوجيا، والسلع الكمالية.
يتضمن التشريع أيضا تدابير محددة يجب اتخاذها تجاه “مصرف سورية المركزي” إذا كانت هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنه متورط في غسيل الأموال. بمجرد دخول التشريع حيز التنفيذ في منتصف 2020، أدى الامتثال المفرط للعقوبات من قبل البنوك، إلى جانب التأثير الاقتصادي لفيروس كورونا وتفاقم الأزمة اللبنانية، إلى تسارع انخفاض قيمة العملة.
يقول الخبراء إنه رغم فرض عقوبات على الحكومة السورية منذ بدء النزاع، فإن الضوابط على رؤوس الأموال التي فرضتها المصارف في لبنان في أكتوبر/تشرين الأول 2019 كان معناها أن رجال الأعمال السوريين لم يعودوا قادرين على التصرف بحساباتهم في البنوك اللبنانية. وقد أثر ذلك بدوره على قدرتهم على إدخال العملات الأجنبية إلى البلاد، ما أدى إلى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية وإضعاف قدرة الحكومة على استيراد المواد الغذائية، مثل القمح.
في خطاب ألقاه في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، قال الرئيس بشار الأسد إن مليارات الدولارات التي يملكها السوريون والمحتجزة في المصارف اللبنانية كانت السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية المتفاقمة في سوريا. قال: “الأزمة بدأت قبل قانون قيصر، وبدأت بعد الحصار بسنوات”، مضيفا أن المشكلة هي “أموال السوريين التي أودعوها في لبنان، وعندما أغلقت المصارف دفعنا الثمن”.
أدى الوباء الناتج عن فيروس كورونا إلى انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل أكبر. في مارس/آذار 2021، كانت الليرة السورية عند أدنى مستوى لها على الإطلاق عند 4,300 ليرة للدولار. أدى انخفاض قيمة العملة إلى زيادة تكلفة الواردات مثل القمح، والوقود، والأسمدة، فضلا عن آلات إنتاج القمح والخبز. كما ساهمت أزمة الوقود في سوريا– الناجمة عن العوامل نفسها ولكن المتأثرة بشكل مباشر أكثر بالعقوبات المتعلقة بالوقود – في زيادة أسعار القمح، لأن إنتاجه يعتمد على الديزل.
التمييز في التوزيع
قالت ناشطة مجتمعية زارت ريف دمشق، وحمص، وطرطوس لـ هيومن رايتس ووتش إن الأفران المدعومة من الحكومة فيها طوابير منفصلة لكل من السكان العاديين، والنازحين، والجيش والمخابرات. كان طابور الجيش والمخابرات هو الأسرع، بينما تحرك النازحون بمعدل مكان واحد لكل خمسة أماكن في الخط النظامي. في بعض الأحيان، كان عمال المخابز يبعدون النازحين، بحسب الناشطة، ويقولون لهم “ارجعوا من وين ما اجيتوا” وإنهم كانوا سبب الأزمة. أكد سكان في السويداء، ودرعا، وحمص وجود نمط مماثل في هذه المناطق.
تختلف إمكانية الحصول على الخبز وفقا للحالة الاقتصادية للأفراد. تنتج المخابز الخاصة الخبز العادي و”الخبز السياحي”، والذي غالبا ما يكون أفضل جودة مما يباع في المخابز المدعومة من الحكومة، وغالبا ما يضاف إليه الحليب ومكونات أخرى، مثل السكر.
في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020، ضاعفت الحكومة السورية سعر ربطة الخبز المدعوم من 50 إلى 100 ليرة سورية (0.017 دولار إلى 0.034 دولار). أولئك الذين يستطيعون تحمل التكلفة قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إنهم يلجؤون إلى السوق السوداء لشراء الخبز، حيث يمكن أن يتراوح سعر الربطة من 250 إلى ألف ليرة سورية (0.085 إلى 0.341 دولار) أكثر من عشرة أضعاف السعر الجديد للخبز المدعوم.
يعيش أكثر من 80 % من السوريين تحت خط الفقر، وبالنسبة إلى 40 % من الأسر، فإن 65 % من النفقات تذهب إلى المواد الغذائية، بحسب الأمم المتحدة. إلى جانب القيود الحكومية على كمية الخبز المدعوم المتاح – بحد أقصى أربع ربطات لعائلة من سبعة أفراد أو أكثر، وربطة واحدة لعائلة مكونة من شخصين – والتسعير والطوابير المتوازية، يخدم النظام السائد الأشخاص الميسورين الذين يمكنهم تحمل تكلفة الخبز “السياحي” أو الخبز من السوق السوداء.
قال موظفا إغاثة يشاركان اثنان من عمال الإغاثة المشاركين في تقديم الغذاء والدعم المعيشي، وناشطة مجتمعية لـ هيومن رايتس ووتش، إن هناك أيضا مشاكل تتعلق بتوزيع الخبز والقمح من قبل بعض المنظمات الإنسانية. قالت الناشطة المجتمعية إن عددا قليلا فقط من المنظمات المحلية تقدم الخبز، وإن بعضها يوزع على أساس الإثنية، والطائفة، والمنطقة الأصلية للمتلقين.
أكد مسؤولان إنسانيان دوليان أن الحكومة السورية تزود فرقهم بقوائم المخابز لإعادة تأهيلها، لكن لا توجد وسيلة أمام منظمات الإغاثة لتحديد الحاجة في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة. قال مسؤول في منظمة إغاثية إن الحكومة توجه المنظمات الإنسانية بإعادة تأهيل المخابز وتوصيل سلال غذائية حسب الانتماءات السياسية للحي المعني، وليس على أساس الحاجة وحدها.
الفساد
في حين أصدرت الحكومة السورية قرارات تمنع المخابز غير المعتمدة من بيع الخبز المدعوم وتعلن عن حملة على مبيعات السوق السوداء، تلعب الأجهزة الأمنية السورية دورا رئيسيا في الاحتيال في مبيعات الخبز والقمح. وبحسب ثلاثة من سكان جنوب سوريا ودمشق وحمص ، فإن عناصر الأجهزة الأمنية السورية يأخذون بعض الخبز من الربطات ويبيعونه في السوق السوداء بأكثر من ضعف السعر.
أفادت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لسكان في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الحكومة عن بيع كميات كبيرة من الدقيق، والسكر، ومواد غذائية أخرى تقدمها وكالات إنسانية في السوق السوداء، بما في ذلك من قبل أفراد معروفين في الأجهزة الأمنية أو القوات المسلحة السورية.
كما عينت الحكومة السورية عناصر من قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية كموزعين معتمدين للخبز في مناطقهم. وفقًا لمصدر لموقع “تجمع أحرار حوران” المحلي، في حالة واحدة على الأقل، باع الموزع المعتمد ربطات الخبز بضعف السعر الرسمي.
الهجمات على المخابز والأفران، وحرق الأراضي الزراعية، وانخفاض القدرة على إنتاج الخبز
منذ بداية النزاع، دمرت القوات السورية، ولاحقا التحالف العسكري السوري-الروسي، المخابز والأفران بشكل منهجي في مناطق عدة، منها أجزاء من حمص، وحلب، وريف دمشق. كما هاجم التحالف العسكري السوري-الروسي الأراضي الزراعية، كانت آخر مرة في محافظة إدلب عام 2019.
يؤثر ذلك على قدرة المخابز على إنتاج وتوزيع ما يكفي من الخبز على السكان، ويفرض على السكان السفر لمسافات طويلة، حتى لو كانت مناطقهم قد عادت إلى سيطرة الحكومة.
بدأ برنامج الأغذية العالمي، و”منظمة الصحة العالمية”، ومنظمات إنسانية أخرى مشاريع لإصلاح المخابز. لكن عمال الإغاثة والسكان الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش قالوا إن المشاريع لا تستند إلى تقييم شامل للاحتياجات، وفي بعض المناطق التي تشتد فيها الأزمة، لم يتم إصلاح الأفران والمخابز.
حلب
في أغسطس/آب 2012، وثقت هيومن رايتس ووتش عشرة هجمات على الأقل للحكومة السورية على المخابز في محافظة حلب على مدى ثلاثة أسابيع، سبعة منها في مدينة حلب. في أواخر 2016، وثقت لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن سوريا تدمير ثلاثة أفران في المعادي، والمغير، والمشهد. ووفقا للجنة، كان أحد المخابز يطعم قرابة 6 آلاف عائلة. أكد سكان سابقون في مدينة حلب تعرض العديد من الأفران للهجوم عدة مرات وإخراجها من الخدمة.
قال موظفو إغاثة يعملون حاليا في مدينة حلب لـ هيومن رايتس ووتش في ديسمبر/كانون الأول إن المدينة من بين الأكثر تضررا من حيث نقص الغذاء، وإن تدمير المخابز ساهم بشكل كبير في الأزمة. إذا تم تدمير مخبز أو أصبح يعمل جزئيا، فإن الحكومة لا تعطي حصة هذا المخبز من القمح للمخابز الأخرى التي تخدم المنطقة، ولكن لمخابز في أحياء أخرى، ما يجبر السكان على الوقوف في طوابير لساعات طويلة في الحي أو عبور نقاط التفتيش إلى مناطق أخرى للحصول على الخبز.
طلبت الحكومة السورية غالبا من وكالات الإغاثة إصلاح المخابز نفس التي دمرتها القوات الحكومية قبل سنوات، بدعوى أن الضرر ناتج عن “نشاط إرهابي”.
حمص
في 2012 ثم مجددا في 2014، هاجمت الحكومة المخابز في شمال محافظة حمص، بما في ذلك المخبز الرئيسي في قرية الفرحانية والمخبز في الرستن. قتل كل هجوم عشرات المدنيين وأوقف عمل هذه المخابز بالكامل لعدة سنوات. في 2016، تم إصلاح أحد المخابز من قبل منظمة إنسانية، لكنها نقلت خط الإنتاج إلى مبنى خارجي لمنعه من التعرض للقصف مرة أخرى.
في مايو/أيار 2018، وقّعت قرى وبلدات شمال حماة اتفاقيات مصالحة مع الحكومة بعد أن استعادت المنطقة. لكن السكان وتقارير محلية قالوا إن أزمة الخبز لم تخف. عندما استعادت الحكومة المنطقة، منعت جميع المخابز الخاصة من العمل، بما فيها المخابز التي تم إصلاحها بشكل مشترك من قبل برنامج الأغذية العالمي و”الهلال الأحمر العربي السوري”. حصرت السلطات الإنتاج بالمخبز الحكومي الذي تم إصلاحه جزئيا، والذي، وفقا لاثنين من السكان المحليين، لا يمكنه سد حاجة السكان.
قال أحد السكان: “الطوابير مزدحمة. يأتي الخبز في الساعة 1 صباحا ولكن لا يمكنني الحصول عليه في صباح اليوم التالي، ويجب أن أذهب فورا وإلا فلن يكون صالحا للأكل. أقضي ساعات أنتظر في الطابور”.
سقبا
أفادت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ووسائل إعلام محلية في فبراير/شباط 2018 أن التحالف السوري-الروسي قصف أحد الأفران الرئيسية في بلدة سقبا بالغوطة الشرقية، التي كانت حينها خاضعة لسيطرة المعارضة، ما أخرجه من الخدمة. وقال سكان إن القصف العَرَضي للتحالف العسكري السوري-الروسي دمر المخبز الوحيد الآخر في سقبا.
تسلط منشورات سكان سقبا على “فيسبوك” منذ أواخر 2020 الضوء على أزمة الخبز المستمرة. في أحد المنشورات، يقول شخص من سكان البلدة إنه للحصول على حصته من الخبز، اضطر إلى الوقوف في طابور من الساعة 4 صباحا حتى الساعة 8 صباحا، وحتى حينها، لم يكن هناك ضمان أنه سيحصل على الخبز. وأعرب آخر عن أسفه لتدمير الأفران، قائلا إنه كان يوجد مخبز في وسط البلدة وإنه لما كانت الطوابير طويلة لو كان هناك أكثر من مخبز يعمل في المنطقة. قالت امرأة إن بعض الناس ينتظرون في الطابور لساعات، لكن آخرين يمكنهم مجرد الدخول والحصول على كل الخبز الذي يحتاجون إليه.
في سبتمبر/أيلول 2020، أفادت وسائل إعلام محلية عن وقوع اشتباك مسلح في سقبا بسبب خلاف حول من كان دوره في طوابير الخبز. وتضمنت الصفحة صورا لعشرات الرجال ينتظرون في طابور أمام مبنى عليه لافتة “مخبز سقبا” تحمل وجهَيْ بشار وحافظ الأسد.
النوعية الرديئة للخبز
قال السكان إن الخبز من المخابز الحكومية يكاد يكون غير صالح للأكل ولونه أسود لأنه قديم أو مختلط بالعدس أو الشعير. قال رجلٌ إن النوعية كانت سيئة لدرجة أن الخبز يجب أن يُغمس في الماء ليؤكل. وقال آخر إن هذا ينطبق بشكل خاص على الخبز المدعوم من الحكومة.
الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها السكان على وسائل التواصل الاجتماعي وأطلعوا هيومن رايتس ووتش عليها تصور الخبز جافا ومشققا. ادعى الكثيرون أن حجم الخبز يختلف من مخبز إلى آخر. قال رجل إنه يجب الانتظار لساعات في الطابور وتناول الخبز فورا وإلا أصبح غير صالح للأكل.
قال اثنان من أصحاب المخابز إن الحكومة تسيطر على توزيع القمح والطحين بسبب النقص، ونتيجة لذلك تستخدم عدة مخابز مواد أخرى لتكملة القمح في الخبز. وأكدوا أن نقص الوقود ساهم في ارتفاع أسعار نقل الخبز ومشاكل التجهيز.
توصيات
الحكومة ملزمة بضمان ألا يجوع أحد. يجب أن تراجع القيود على كمية الخبز التي يمكن للأسر الحصول عليها لتأمين المؤن الكافية وتقديم دعم إضافي للأسر غير القادرة على تحمل تكاليف المواد الغذائية الأساسية لضمان عدم تعرضهم للجوع. كما ينبغي لها ردع أجهزتها الأمنية، والتحقيق في مزاعم الفساد والتمييز في التوزيع، ومحاسبة المسؤولين عن منع وصول الخبز إلى العائلات التي تحتاج إليه.
على الدول المعنية، بما فيها الجهات المانحة للأمم المتحدة والوكالات الإنسانية الأخرى التي تصلح الأفران المدمرة، ضمان المحاسبة على أعلى المستويات للأطراف المسؤولة عن تدمير المخابز والأراضي الزراعية الصالحة للحياة. عليها أيضا وضع مراقبين مستقلين لضمان عدم التمييز في توفير الطحين والسلال الغذائية، وأنه يتم توزيعها بناءً على الاحتياجات في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.
على الولايات المتحدة، و”الاتحاد الأوروبي”، والدول الأخرى التي فرضت عقوبات على سوريا ضمان توفير إعفاءات إنسانية فعالة وعملية للتخفيف من الآثار غير المباشرة للعقوبات على إمدادات الخبز. تحتاج السلطات أيضا إلى الموارد اللازمة للاستجابة بسرعة لطلبات الإعفاء ومعالجتها وتنفيذ التواصل للتخفيف من الآثار المروعة للعقوبات.