ليس جديداً على بلادنا أن تكون جزءا من سياسية دول القرار العالمي، وذلك منذ نشوء المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر وحتى الآن، ولقد تجلى مكر السياسية الغربية منذ ذاك الحين في الوعود المعسولة التي تغطي الممارسات المدمرة، وما زال المكر الدولي يتبع السياسة نفسها أمام أهم ثورة في تاريخ المشرق العربي الثورة السورية!
لقد ظهر المكر الدولي بالثورة السورية أكثر ما ظهر في تعامله مع قوى المعارضة السورية المدنية والمسلحة وقد تجلى هذا المكر في أمرين:
الأول: التعامل مع المعارضة كأدوات في سياسة دول القرار العالمي، وليس بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري تتطلب دعماً دولياً لتحقيق أهداف الشعب السوري بالتحرر.
الثاني: عدم القطيعة مع “نظام” أسد والتعامل معه على أنه طرف في أي حل، مع يقينهم الكامل أن هذا “النظام” لا يمكنه أن يفكر إلا في الحل العسكري الذي دعاه لاستدعاء الجيش الروسي والإيراني والميليشيات الطائفية الشيعية من لبنان وأفغانستان وإيران الخ.
فكيف لنظام عالمي وشرعية دولية وقانون دولي أن ينظر إلى “نظام” استخدم الأسلحة الكيميائية ضد الشعب على أنه طرف في الحل، ومع معرفة باستحالة الحل مع حكم يمارس سياسة الميليشيا الطائفية؟! هذا بحد ذاته دلالة على عدم جديتهم في البحث عن حل يحقق مطالب الشعب السوري وحقوقه المشروعة. ولكي لا نغرق في التفاصيل الكثيرة، أتوقف عند أسوأ حالة من حالات مكر الموقف الدولي من المعارضة السورية، ألا وهو ستيفان ديمستورا مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية الذي يمكن القول إنه التجلي الأمكر والأخبث لسياسة دول القرار.
وجه ديمستورا عشرات الدعوات إلى كل تجمعات وأحزاب وتيارات وفصائل ومنظمات، بعضها معارض وكثير منها مزيف المعارضة، وبعضها تشكل أثناء دعواته ليستفيد بدعوة للحضور! ساعيا لتشكيل وفد مفاوض “لنظام” أسد، من خلال عملية سياسية تدعى “الخيمة الكبيرة”، وطيلة مدة ولايته لأربع سنوات، جلس يعجن حبات الرمال؛ وبما أن تركيزه انصب على عجينة وفد متجانس من عشرات المعارضات المختلفة، تراجعت القضايا الأخرى إلى الحضيض، كإيقاف القصف والدمار والقتل وفك الحصار وإطلاق سراح المعتقلين وإيصال المساعدات وحماية المشافي والوصول لحل سياسي حسب مقررات مؤتمر جنيف.
الدبلوماسي المخضرم أصر أن يشكل وفدا متجانسا من جميع فئات المعارضة السورية، من كل الإثنيات والطوائف والمناطق، من كل المعتقدات السياسية والمشارب الاجتماعية، من الأجناس الثلاثة، من المتحزبين والمستقلين، من العسكريين والمدنيين، من المقاتلين والناشطين، من الإسلاميين والملحدين، يريد أن تكون لديهم إرادة واحدة ورؤية واحدة، وإلا لن تكون هناك مفاوضات وفعلا بسياسته تلك لم تبدأ مطلقا!؟ قال رياض حجاب رئيس لجنة المفاوضات “فريقنا يمثل جميع فئات المجتمع السوري المعارض”، لكن ديمستورا اعترض لأن تيارات أخرى لا توافقهم الرأي، كتيار منى غانم ولؤي حسين والبي ي دي ووو.
ديمستورا أول دبلوماسي دولي يصرح أن “الأسد جزء من الحل السياسي”، وإن عاد وسحب تصريحه معتبرا أنها زلة لسان(!؟) إلا أنه قدم ذريعة لألسن دولية متعددة تلقفت تصريحه وطالبت بعدم القطيعة مع “نظام” أسد! وأطنبت وسائل الإعلام الأسدية في التمسك “بزلته” تلك واستخدمتها في سياسة كسر إرادة الشعب السوري. وهو نفسه زلت قدمه وزار السفارة الإيرانية بدمشق مهنئاً باليوم “الوطني” لوصول رجال الدين إلى حكم إيران، وعاد اعتذر عنها وبررها أيضا!
دي ميستورا: الذي كرس ولايته، أربع سنوات لتأسيس وفد المعارضة المتجانس قال: “إنه يدرك أن العديد من الأطراف الرئيسية المشاركة في المحادثات السياسية من غير المرجح أن تقبل شرعية بعضها البعض وأن تجلس معاً في محادثات سلام وجهاً لوجه”! معقول احتاج أربع سنوات ليفهم أنها عجنة رمل، وأن المستحيل هو جمع معارضات حقيقية ومزيفة مختلفة المشارب والانتماءات؟! كلا إنه يعرف ما يفعل فهو ببساطة يمنح اللاعبين الدوليين ومعهم بشار أسد وزمرته الاستفادة من استمرارية الغطاء السياسي الذي توفره مبادراته، وذلك لتعزيز طموحاتهم على الأرض السورية، وكذلك لتزهق آمال الشعب السوري بحصد نتائج ثورته.
فديمستورا ومن وظف ديمستورا يعرف أن الحل السياسي الحقيقي كان سيجنب سورية الانزلاق إلى حروب الوكالة، التي استفاد منها أعداء الشعب السوري، ووحده الشعب السوري دفع ثمنا باهظا. كما أن معظم الفئات التي استدعاها ديمستورا لها ضامن دولي، أي عميلة لجهة دولية، لذلك استطاعت أن تقبل أو ترفض، أو تضع شروطا وتعرقل هنا وهناك، وتثير فوضى إعلامية تزرع اليأس في نفوس الثائرين وتخلق انطباعا بأنهم وحيدون في الخنادق! كما استنزف اللاعبون الدوليون الوقت والجهد بملكيتهم لحق النقض الافتراضي في دعم ممثليهم ورفض آخرين: فروسيا، مثلا، ضغطت لاستبعاد الجماعات الإسلامية من المحادثات السياسية، وتركيا رفضت وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي الكرديين، والسعودية اعتبرت أن هيئة المفاوضات الممثل الشرعي والوحيد، و”نظام” أسد رفض الجميع لكنه استحب لؤي حسين وقدري جميل وأمثاله من “معارضةٍ” تكره الثورة وتطالب ببقائه وإصلاح نظامه فقط! أما الدبلوماسي المخضرم فقد نجح في هدفه الحقيقي وهو: إبقاء الإحساس أن عملية سياسية تجري على قيد الحياة حتى عندما لم يك هناك عامل على قيد الحياة في العملية برمتها.
لم يك لقائي بدميستورا منتصف شهر أيار 2015 وديا؛ ما قلته نشره الإعلام وهو موثق لدى الأمم المتحدة بناء على طلبي، لكني أود أن أورد نقطة لها علاقة بلب موضوع اليوم وهي أني اتهمته بخلق إحساس دولي وسوري أن الثورة طائشة ليس لديها من يمثلها، عبر السعي لتشتيت المعارضة وخلق وتبني عشرات المعارضات المزيفة. وطالبته حينما رفض اتهامي، أن يطبق إذا قانون الشفافية ويطلع السوريين على محادثاته مع المجموعات المعارضة، فمن حق السوريين أن يعرفوا ما يقوله الذين يدّعون تمثيلهم في ردهات المجتمع الدولي. لكنه راوغ، لأنه يعي أن مهمته الحقيقية ليس خلق عملية سياسية، وإنما تمييع مخرجات جنيف ربما إلى الأبد!
لا أؤمن بحسن النوايا في السياسة، وهي ليست موجودة أصلا حتى أؤمن بها وأبرر لأي سياسي تصرفاً أو تصريح سياسي ما! أذكر أني حين حضرت مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الأول في تونس وصلت قبل افتتاح الجلسة الرئيسية بنحو ساعة، مفوتا بعض اجتماعاته الجانبية، لعدم قدرتي على الحضور قبل يوم من انعقاد المؤتمر. بالطريق إلى القاعة قدم لي مراسل أورينت اختصاراً عن الاجتماعات التي عقدت قبل وصولي، ومنها أن أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي آنذاك، قابل المعارض هيثم المالح منفردا قبل اجتماعه مع رئيس المجلس الوطني الدكتور برهان غليون وممثلين عن المجلس، وحين دخلت قاعة الاجتماع تحينت فرصة وسألت أوغلو: كيف يقابل المالح منفردا قبل مقابلته لرئيس وأعضاء المجلس الوطني أو مع أعضاء المجلس بما أنه كان عضوا فيه؟! وأكدت أن هذه رسالة خاطئة ربما ستساهم بكسر إجماع السوريين حول أحقية غليون برئاسة المجلس.
لكن أوغلو بدماثته ابتسم ولم يرد. وحين انعقدت جلسة المجلس الوطني بعد انتهاء أعمال المؤتمر، دعيت بصفة فخرية لإدارة الجلسة، لأني لست عضوا فيه، فأنا لم أنضو مع أي جهة معارضة حتى اليوم. عندها هاجم المالح غليون بقسوة وبشوارعية غير مقبولة، كما أن بعض الأعضاء ذوي اللسان السليط، (أحدهم لا يزال يستخدمه بالكذب وخداع السوريين عبر بث الـ”ون مان شو” على السوشيال ميديا بعدما انتهى صخبه في قاعات المعارضة)، قاموا باستصغار دور غليون بصفاقة لا تمت إلى النخبة بصلة، فرفضت إكمال إدارة الجلسة وغادرت، ليلحقني هو ورفيقه، ليعرضا عليّ مساعدتهما في الإطاحة بغليون من رئاسة المجلس، وعندما سألتهما عن البديل؟ قال المخادع: “أنا”، فسألته عن مميزاته عن الدكتور غليون، فأكد أن ميزته أنه خريج سجن أسد السياسي!؟ دون تعليق، انسحبت عنهما، متجها إلى غرفتي للراحة، فقابلت غليون الذي انسحب أيضا من الجلسة، وعلق بألم وحسرة وربما بانكسار: “أظنك شهدت ما أعاني معهم”؟! قلت: “نعم ولم أتوقع! لكني أعتقد أن قنبلة أوغلو كانت المتفجرة الأقوى في الجلسة. أستغرب كيف قبلت الاجتماع به بعدما قابل معارضا بصفته الشخصية قبلك وأنت ممثل لمجلس اجتمع السوريون على تمثيله وهو عضو فيه”؟!
إن الثورة السورية هي ثورة تحرر حقيقية، ولأنها ثورة تحرر فهي لا تحتاج إلى النظر إليها من زاوية التقسيم الديني والطائفي والعرقي والمناطقي والجنسي ، ولا تحتاج جميع المعارضين أن يكون لهم حق التمثيل، كما أراد ديمستورا وغيره. إنها ثورة شعب من أجل تحقيق الدولة الوطنية، دولة العقد الوطني، دولة العقد الاجتماعي. دولة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وحرية المجتمع السياسية والمدنية. كما أن تاريخ الكفاح السوري لا يعرف تقسيماً كهذا التقسيم الذي يريدونه لنا! وإن الثورة يقوم بها جمهور من الشعب وليس مطلوبا كل الشعب، تمثله ثلة من الشرفاء الوطنيين يثق الشعب بشرفهم ونظافة كفهم ووطنيتهم، وليس مطلوبا ثقة الشعب كله، هذه المجموعة يجب أن تتكون من نخب مال وأعمال وفكر وسياسة ومجتمع وعسكر، كل حسب دوره، تؤسس صندوقا وطنيا ماليا يراعي الشفافية ليحافظ على ثقة السوريين كي يساهموا فيه كل حسب استطاعته؛ كما أنها لا تدير دولة لتحتاج إلى انتخابات لا يمكن تحقيقها في ظل طغمة حاكمة إرهابية طائفية، وغير مطلوب أيضا أن يكون هناك انتخابات بينية دورية كما فعلت المعارضة السورية، كل ثلاثة أشهر رئيس جديد، كارثة وأي كارثة؟!
إن أسد الأب والولد لم يفاوضا الشعب السوري يوما ولم يعيرا انتباههما لمطالبه، بالمطلق، منذ تسلطهم على السوريين؛ فثورة قدمت نحو مليوني شهيد ومفقود، وستة عشر مليون مهجر لم يكلف بشار أسد نفسه تغيير مختار لحيّ تحسسا لإرضاء شعب يعتبره أصلا غير موجود! لكن إرادتيهما بقيت ذليلة تجاه الدول المؤثرة، تساوم هذه وتقدم رشا لتلك على حساب أرض سورية ومستقبل السوريين. لن ينسى السوريون تصريح وزير الخارجية السابق لميليشيا أسد وليد المعلم: “من يريد الهجوم على سورية لا مبرر له إلا بالتنسيق معنا”! لذلك على أي فريق يقدم نفسه ممثلا عن ثورة السوريين أن تكون استراتيجيته وتكتيكاته تنطلق من مبدأ وحيد: القرار السوري المستقل والمعارضة بوصفها الممثل الشرعي الوحيد ، وأن يستفيد من تجربة المعارضة لعشر سنوات وخبرتها بمكر الدول، هذا الوعي من شأنه أن يسرّع الخلاص من كل أشكال الاحتلالات لسورية.
غسان عبود