منذ بدايات الوعي الإنسانيّ وُجِد داخل المرء شعورٌ خفيٌّ بالحاجة إلى قوّة جبّارة يعتمد عليها عند الشّدائد, ويلوذ بها وقت المصائب, ليقدّم لها طقوس العبادة في السرّاء والضرّاء, فتنزل السكينة على نفسه.
وقد تنوّعت أشكال هذه العبادات عند الإنسان قديماً وحديثاً, ولعلّ أبرزها في العصر الحديث عبادة الفرد, لكن ليس أيّ فرد, وإنّما عبادة الزعيم السياسيّ.
بعد الانقلاب على الحكم الملكيّ في مصر عام 1952, تنامى الخطّ العروبيّ الذي مثّله الرئيس جمال عبد الناصر, فملك قلوب الملايين من العرب الذين كانوا يلتفّون حول المذياع لسماع خطبه الحماسيّة مستغرقةً ساعات طوالاً.
بدأت بواكير عبادة الفرد في مصر مع عبد الناصر, فقد انتبه السياسيّون السوريّون عندما زاروا مصر إلى اللوحات التي كانت تزيّن جدران المدارس الرسميّة, فيظهر فيها “رمسيس الثّاني”, الفرعون الأكثر شهرةً في تاريخ مصر, وهو يسلّم الرئيس عبد الناصر صولجان الحكم، ويقدّم له باقةً من الورود الملوّنة كتب عليها “القوميّة العربيّة”.
وشاءت الظروف أن يحكم هذا الزعيم سوريا، ضمن “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” عام 1958, وينقل إليها أسلوب حكمه الذي تجاوبت معه الغالبيّة الساحقة من الجماهير بانسياق تامّ. فعندما زار الرئيس جمال عبد الناصر سوريا؛ أصيبت الجماهير بنوبة عاطفيّة قوميّة دفعتهم إلى التدفّق نحو “قصر الضّيافة”, وحناجرهم تصدح باسمه دون توقّف, وأجسادهم تواكب سيّارته كيفما تحركت, متعلّقين بها حتّى انكسرت السيّارة فاضطرّ إلى تغييرها ومتابعة السير وسط طقوس أشبه بطقوس العبادة, فدهش عبد النّاصر و”اعترته هزّة التّعالي ونشوة الظفر، وخيّل إليه أنّ سوريا ارتمت تحت أقدامه وتعلّقت بذيول وحدته”.
وهكذا بات شخص “الزّعيم” يهيمن على الشعب, وغدت صوره تحتلّ شوارع البلاد وأزقّتها ومؤسّساتها الحكوميّة والخاصّة وصولاً إلى البيوت, حيث تعلو صورة “الزّعيم” في كلّ مكان، بمشهد تنبّأ به الروائيّ والصحفيّ البريطانيّ جورج أورويل, الذي طرح فكرة “الأخ الأكبر” في روايته “1984”, فـ”الأخ الأكبر” هو الزّعيم الذي تنتشر صورته في كلّ مكان من البلاد, ومعها عبارة “الأخ الأكبر يراقبك” Big Brother is watching you.
هكذا كان الوضع في سوريا مع صورة الرئيس عبد الناصر, لكن مع اختلاف كبير عند جيل الشباب, الذي رفع صور “الزعيم” حبّاً وولهاً لا خوفاً ورعباً, فـ”صور عبد الناصر احتلّت كذلك جدران غرف الطلّاب, شبّاناً وشابّات, وعلّقت ضمن الإطارات على صدور الكواعب (الفتيات النّواهد), إلى جانب صور الكواكب المتلألئة في سماء التّمثيل والسينما”.
ولم يقف الأمر عند حدود العبادة الوطنيّة, وإنّما تعدّاها إلى نشر الخرافة في المجتمع, وإضفاء هالة من القداسة على عهد الزعيم الجديد, الذي ملأت الإشاعات عنه أرض الشام بأنّ المنجّم الشهير “نوستراداموس” قد تنبّأ عن “رجل من الشرق سيهزم الغرب, وإنّ هذا الرجل لا بدّ أن يكون عبد الناصر”. وتمّت رعاية هذه الإشاعات من طرف أشخاص كانوا أقرب المقرّبين من الرئيس، مثل عبد اللطيف البغدادي وزكريّا محيي الدين.
وانتقلت عدوى التعظيم والتقديس من الجماهير إلى بعض السياسيّين السوريّين, الذين يفترض بهم أن يحكّموا العقل في السياسة, لا المشاعر والعواطف والأهواء. وقد اعترف أكرم الحورانيّ, وكان رئيس المجلس النّيابيّ السوريّ قبل الوحدة؛ بأنّه أوعز إلى خطيب الجامع الأمويّ أن يشبّه الرّئيس عبد الناصر في خطبته بصلاح الدين الأيوبيّ, فكما حرّر صلاح الدين بيت المقدس من الصليبيّين قبل قرون؛ هكذا سيحرّر عبد النّاصر القدس وفلسطين كاملةً. ووصل الأمر بالحورانيّ إلى مخاطبة عبد النّاصر, وهما في مدينة بانياس السوريّة، قائلاً: “والله لو خضت هذا البحر لخضناه معك”.
لقد انجرف الحورانيّ في مشاعره أكثر من المعقول؛ لأنّه استعار عبارته هذه من الصحابيّ سعد بن معاذ, الذي قال لنبيّ الإسلام قوله الشهير: “فامضِ يا رسول الله… لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك”. وهكذا شبّه الحورانيّ عبدَ الناصر بنبيّ الإسلام محمّد.
لكنّ الحورانيّ لم يبق عند رأيه هذا, لأنّه بعد أشهر من قول هذا الكلام صار من أشدّ الناقمين على عبد النّاصر ونظامه, ووقّع بيده على بيان الانفصال في 2/10/1961.
…………………….
المصادر:
– عبد الكريم, أحمد. أضواء على تجربة الوحدة. دمشق: الأهالي للطّباعة والنّشر. ط 2, 1991.
– العظم, خالد. مذكرات خالد العظم, الجزء الأوّل. بيروت: الدّار المتّحدة للنشر. 1973.
– الحورانيّ, أكرم. مذكّرات أكرم الحورانيّ. (نسخة إلكترونيّة).
– ابن هشام, السّيرة النّبويّة. بيروت: دار الكتاب العربيّ. (ط 3). (1990)
.