اتسمت علاقات الولايات المتحدة والصين، عبر تاريخها المديد الذي يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، بطابعها المتغيّر والإشكالي، ما جعلها مفتوحةً دوماً على شتى الاحتمالات. وُقِّعت أول اتفاقية دبلوماسية بين البلدين، في عهد أسرة “تشين”، عُرفت بمعاهدة “وانغيا Wanghia”، في يوليو/تموز 1844، واسمها الرسمي “معاهدة السلام والصداقة والتجارة بين الولايات المتحدة الأميركية والإمبراطورية الصينية”، بموجبها حصل الرعايا الأميركيون على الامتيازات والحصانة الدبلوماسية. ورغم سقوط الملكية وإعلان الجمهورية (1911)، لم ينتهِ العمل بها إلا خلال الحرب العالمية الثانية. فبعد إعلان الولايات المتحدة الحرب على اليابان، (1941)، تحالفت مع الصين وقدّمت الدعم للجنرال شيانغ كايشيك في مقاومة الاحتلال الياباني. وجرى توقيع وتصديق معاهدة جديدة في 1943 سُمّيت “معاهدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين، للتخلي عن الحقوق خارج الحدود الإقليمية في الصين وتنظيم الأمور ذات الصلة”.
بعد الحرب وتحرير الصين من الاحتلال، لم تصمد حكومة شيانغ كايشيك أمام زحف الشيوعيين بقيادة ماوتسي تونغ الذي انتصر رغم الدعم الأميركي لخصومه وحياد السوفييت في النزاع آنذاك، فتراجع كايشيك نحو الجنوب الشرقي ونقل حكومته إلى جزيرة تايوان، فيما أعلن ماو قيام “جمهورية الصين الشعبية” عام 1949. اعترف الاتحاد السوفييتي السابق بنظام الحكم الشيوعي و”جمهورية الصين الشعبية”، في حين رفضت الولايات المتحدة ذلك، وواصلت مساندة حليفها كايشيك، ودعمت حكومة تايوان واعترفت بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الصيني، لتدخل العلاقات الصينية – الأميركية مرحلة شائكة، لم تقلّل التطوّرات التي طرأت عليها لاحقاً من تعقيداتها.
في أجواء الخلاف الصيني – السوفييتي وما سبّبه من شقاق أيديولوجي وسياسي في “المعسكر الشيوعي”، في ذروة الحرب الباردة، وقع التحوّل الأبرز في العلاقة بين بكين وواشنطن، بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين في فبراير/شباط 1972، بعد سلسلة لقاءات سرّية تمهيدية مع مسؤولين صينيين، أجراها مستشارُه للأمن القومي هنري كيسنجر. تُوِّجت الزيارة بلقاء نيكسون وماو وإصدار “إعلان شنغهاي” حول رغبة البلدين بإقامة علاقات طبيعية بينهما، والعمل على تسوية الخلافات وتجنّب الصدام في العلاقات الدولية.
كان من النتائج المباشرة للتقارب الأميركي الصيني استعادة الصين عضويّتَها في الأمم المتحدة على حساب تايوان، وكذلك مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي. وواصلت العلاقات الثنائية تطوّرها الإيجابي، فجرى تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين رسميّاً في 1979، وقام الزعيم الصيني دينغ شياوبنغ بزيارة واشنطن في العام نفسه، ووُقّعت اتفاقية ثنائية للتعاون التكنولوجي، إذ كان شياوبنغ الذي قاد مسيرة الاتفتاح الاقتصادي والتنمية في الصين، مدركاً لأهمّية تطبيع العلاقة مع الأميركيين في نجاح خطط بلاده التنموية.
ستمرّ التعايش ومراعاة المصالح بين الجانبين حتى أفول نجم الاتحاد السوفييتي أواخر القرن العشرين، حيث كان لا بدّ من إعادة النظر في العلاقة على أرضية من الشك والريبة المزمنين، وتصوير كل فريق للآخر بوصفه “العدو” الفعلي أو المحتمل، وذلك بعد استشعار المنظّرين والساسة الأميركيين حجمَ التحدّي الصيني القادم وخطورته وأهمّية العمل على احتوائه، وإدراك القادة الصينيين، من جهتهم، ضرورةَ مواجهة سياسة الاحتواء الأميركية، ومتابعة استراتيجياتهم الطموحة.
الخلافات المستجدّة لم تمنع مسؤولي الجانبين من تكرار العبارات الدبلوماسية، في الاجتماعات الثنائية والبيانات المشتركة، وصار الحديث عن الشراكة والتعاون و”المصالح الأساسية للبلدين” وضرورة احترامها، يسير بالتوازي مع المساعي والإجراءات العملية الأميركية للحد من الطموحات الصينية، وكذلك مواصلة بكين ترجمة طموحاتها على أرض الواقع وحماية مصالحها، بخطوات ثابتة تركّز على ضمان استمرار تدفّق صادراتها إلى العالم وسيطرتها على الأسواق، وتأمين خطوط إمداداتها من الطاقة التي لا غنى عنها في استمرار عجلة اقتصادها المتنامي.
طوّرت الإدارات الأميركية سياساتها الصينية، لتتحوّل من سياسة مبنيّة على المصالح المشتركة، إلى أخرى تهدف إلى احتواء نهوض الصين. في المقابل، عزّزت الصين تحالفاتها وقدراتها الدفاعية، ونجحت في مدّ نفوذها وإيجاد نقاط ارتكاز لها على “طريق الحرير البحري”، قبل أن تطلق رسمياً “استراتيجية الحزام والطريق” بوصفه مشروعاً متكاملاً، من أهمّ عناصره “سلسلة اللآلئ”، وهي الموانئ التي استثمرتها على سواحل المحيط الهندي، وباتت قواعد ثابتة لا يقتصر دورها على الخدمات اللوجستية والتجارية، بل توفّر للصين أفضلية اقتصادية وعسكرية، تحول دون انفراد القوة البحرية الأميركية بالهيمنة على المنطقة، وتزيد من أوراق الضغط الصينية على الهند، المنافس الآسيوي الأبرز، وباكستان، فهما من حلفاء واشنطن الأساسيين في مواجهة الصين.
اتساع نطاق المجالات الجيوسياسية التي تتداخل مصالح الولايات المتحدة والصين، وتعدّدها، ومكانة وحصّة كلّ منهما الهائلة من اقتصاد العالم وحجم إنفاقه العسكري، يعني أنّ تأثير مآلات العلاقات بينهما، أياً تكن طبيعتها، لن يقتصر عليهما فقط، بل سيتعدّاهما إلى الأمن والاقتصاد في العالم بأسره. على ذلك، لم يكن من باب المبالغة قول الرئيس الصيني شي جينبينغ لنظيره الأميركي جو بايدن، خلال المباحثات الهاتفية بينهما في التاسع من سبتمبر/أيلول: “إن مستقبل العالم ومصيره يعتمدان على قدرة الصين والولايات المتحدة على إدارة علاقاتهما بشكل صحيح. هذا هو سؤال القرن الذي يتعيّن على البلدين الإجابة عليه”.
يبدو أنّ الإجابة عن “سؤال القرن” ستتطلّب من القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم التكيفَ مع نوع من توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي، لأن العلاقات الصينية – الأميركية أكبر وأكثر تعقيداً من التبسيط الذي تقوم عليه فكرة “التنافس بين قوّتين عظميين”، نظراً لضخامة حجم الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما، وتأثير كلّ منهما في مجمل الاقتصاد العالمي. وبما أنّ التصعيد والصدام المباشر خيار كارثيّ ليس من مصلحة أحد، وطالما بقي احتمال الشراكة الكاملة متعذّراً في ظل تناقض المصالح، فلن يبقى سوى التعايش والبحث عن حلّ الخلافات سلمياً.
طارق عزيزة