حاورتها: ماري-لور دولورم. (لو جورنال دو ديمونش/ 23/10/2022) عدد: 3954
ترجمة د : غادة بوشحيط
ما يزال إعلان فوز الفرنسية آني إرنو بجائزة نوبل للآداب يثير الكثير من الجدل، حول مضمون أعمالها، والتزاماتها السياسية وقناعاتها، داخل فرنسا وخارجها. يعاب عليها أحيانا “سطحية أعمالها” التي يجد فيها البعض كتابة يومية، في حين يرى آخرون أنها شديدة العمق. الكاتبة التي طال انتظار تصريحاتها، ظهرت في حصة تلفزية على إحدى القنوات الفرنسية “لا غراند ليبريري”، قبل أن تجري حواراً مطولا مع المجلة الأسبوعية “لو جورنال دو ديمونش”، بانتظار الخطاب الذي ستلقيه في الأكاديمية السويدية يوم العاشر من ديسمبر/ كانون الأول القادم. فيما يلي ترجمة لنص الحوار.
كانت بوابة بيت الكاتبة في “سيرجي-بونتواز” في ال”فال دواز” مفتوحة، ملأت أوراق حمراء متساقطة على أرضية الحديقة، لم ولن يتغير شيء. حصلت أني إرنو على جائزة نوبل للآداب بسن الثانية والثمانين. لقد عادت لتوها من الولايات المتحدة الأمريكية وستتوجه قريباً نحو إيطاليا. تسافر مؤلفة “المكان”، دفاعاً عن “سنوات سوبر 8” الوثائقي الذي أخرجته برفقة ابنها دافيد إرنو بريو، انطلاقاً من أرشيف فيديوهات عائلية تم تصويرها بين 1972 و1981، ونقل مؤلف أدبي وسياسي مهموم بحركية العالم.
1-هل ستقلب جائزة نوبل حياتك؟
أتهيب عدد الدعوات فانا أملك دائماً سبباً مقنعاً لقبولها. لنقل إن هناك آني التي هي أنا وآني الأخرى التي تحصلت على جائزة نوبل للآداب، ولا تربط الاثنتين علاقة كبيرة. فكروا في منحي نوبل للآداب لكن أنا لم أفعل. لا شك أن هذا الشعور مرتبط بنشأتي.
انطلاقاً من سن العشرين كنت على يقين أن الكتابة ستكون طريقي، لكن لم أفكر أبداً بالجوائز. الجوائز الأدبية غير عادلة في العموم لكن ما يصنع تفرد جائزة نوبل أنها تجازي مسيرة كاملة، وليس مؤلفاً بعينه. هي جائزة سياسية أيضاً فهي تعبر حقبتها متطلعة نحو المستقبل، لذا فهي من صميم حركية العالم.
2-لمن تهدين هذه الجائزة؟
لكل الذين يعانون من الظلم ويطمحون للعدل وحريات أكبر. لا يمكنني أن أهديها للذين نشأت معهم. علينا التفكير بالمستقبل. أكتب انطلاقاً من البيئة التي نشأت فيها، والتي لم تكن تدري حتى بوجود جائزة نوبل، ولكن أكتب نحو الآخرين الذين يعانون من أشكال أخرى من الهيمنة.
3-تحصلت على جائزة نوبل في الآداب كما لوكليزيو سنة 2008 وموديانو سنة 2014. ثلاثتكم من جيل واحد، تنشرون عند الدار نفسها وتملكون الإصرار ذاته. أي علاقة تربطك بهما؟
كان جون-ماري غوستاف لوكليزيو قدوة ومحركاً بالنسبة لي. كلانا بسن واحدة. بدأ هو الكتابة حين أردت أنا فعل ذلك. أعجبت كثيراً بأعماله الأولى، أصالته وصوته المتفرد. لقد فتح الفضاء الفرنسي. أعجبت كثيراً ب”الجولة وأخبار حوادث أخرى”، سنة 1982. أعترف أني أمتلك صلات أقل بعوالم موديانو لأني لا أملك علاقة بمدينة باريس. اخترت بيتي بسيرجي لهدوئه، ومساحته كما الطبيعة المحيطة. لم أسكن في شقة سوى لخمس سنوات طيلة حياتي. لا تعني لي باريس كثيراً. أحببت آخر روايات موديانو، حيث يخرج من العاصمة ويتحدث عن نشأته. ألف كتباً عظيمةً ك”دورا برودير” سنة 1997، كما “الفيلا الحزينة” سنة 1975 التي لا زالت عالقة بذاكرتي، حيث نتعرف على مدينة ” آنسي”. أمكننا أن نتصادف هناك.
4-من أين ينبع تواضعكم أنتم الثلاثة؟
التزم ثلاثتنا بالكتابة كهدف لحياتنا. لا يمكن لزينة أن تؤثر في نظرتنا للعالم، لن تغير مكانتنا، ولن تحرك دواخلنا. لم نكتب يوما لأجل جائزة.
5-هل يوجد اختلاف في التعاطي مع مؤلفاتك في فرنسا وخارجها؟
عرفت عدة مراحل في مسيرة كتابتي. يتم التركيز على الجانب النسوي فيها في الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية مثلاً، في حين يثير موقفي كمنشقة اجتماعية اهتماما أكبر في اليابان.
6-هنالك من القراء من يحبون كل مؤلفاتك، يفضل آخرون بعضاً منها في حين لا يعجب البعض أي منها. رواية “السنوات” الصادرة سنة 2008، احتفى بها الأصدقاء والأعداء، ألا يعد ذلك ثأراً؟
كتبت “السنوات” منطلقة من ذاكرتي كامرأة ومنشقة. صغت بورتريه لفرنسا منذ 1941 غير مكتفية بإعطاء وجهة نظر بل متخذة موقفاً. لكن الزمن هو الشخصية الرئيسة في رواية “السنوات”. نشكل جميعاً جزءاً من هذا العالم، وعشنا كلنا صراعات، تساؤلات، أحداث، موجات، تحولات اجتماعية…. أثرت أحداث مايو/أيار 1968 في الجميع، حتى أولئك الذين لم يرغبوا بذلك. أردت أن أقدم مسحاً لأجيال عديدة، من خلال شكل سردي لاشخصي وجماعي.
7- كيف تتحضرين لخطاب 10 ديسمبر/كانون الأول في ستوكهولم؟
أنا كاتبة ومناضلة، بالتالي سيكون خطابي أدبياً وسياسياً.
8
-تم تقديم ميشيل هويليبيك كالأوفر حظاً في الحصول على جائزة نوبل للآداب. هل يهمك ككاتب؟
قلت في نفسي يومها من الجيد أني أنا من نال الجائزة وليس هو. أحببت كثيراً امتداد مجال الكفاح سنة 1994، وجدت فيها رواية مجددة، أصلية، عادلة في توصيفها للجسد والجنس كموضوعات نضالية. لكن صار يثير اشمئزازي منذ أصدر كتاب “جزيئات أساسية” سنة 1998 بسبب نظرته للمرأة. اعتبر رواياته أيديولوجية بكتابة مسطحة، يجرها القلم، بلا ميزة. يمكنني مثلاً أن أتعرف مباشرة على رواية لباتريك موديانو من خلال أسلوبها.
9-يقول البعض “آني إرنو غيرت حياتي”، كيف يمكن لكاتب أن يغير حياة؟
الكتب غيرت حياتي أنا شخصياً. “الغثيان” لسارتر، “عناقيد الغضب” لشتاينباك، “الجنس الآخر” لدو بوفوار، كما غيرت فيرجينيا وولف علاقتي بالكتابة. يمكن للكتب أن تفتح أعيننا على الأشياء، فنبصر العالم فجأة كما لم نفعل من قبل.
10-تمحور مشروعك الأدبي منذ البداية حول إثارة الانتباه للواقع كما تواجهينه أنت؟
حاولت بالأحرى كتابة الحياة، كل ما يمكن أن يطرأ فيها من أحداث شخصية ولكن بمجابهة المجتمع. لسنا أحاديات في العالم، ننتمي دائما إلى مجتمع، إلى مرحلة. يقول مثل أفريقي: ” نحن أبناء لزمننا أكثر مما نحن لآبائنا”.
11-هل يتوجب على الكاتب أن يختار بين الالتزام والتركيب؟
أنا ملتزمة في كتابتي. أفرق جيداً بين الكتابة ونضالاتي. يمكننا أن نخطئ خياراتنا السياسية ولكن يستحيل أن نفعل ونحن نكتب. أفضل رغم ذلك تفادي توظيف كلمة أخطاء حين الحديث عن اتخاذ موقف آني. لا نخطئ في التزاماتنا، نختار مقتنعين بما نفعل. لكن بعد مدة، وحين نتخذ مسافة كافية قد نقول ” لن أفعلها مجددا”. بسن الثامنة عشرة، كنت أفكر كما يفكر المحيطون بي، مُناصرةً انقلاب ديغول في 1958. كنت طالبة فلسفة في سن العشرين، وصرت أفكر بطريقة مختلفة، طلقت فكرة “الجزائر فرنسية”. أتغير وكذلك يفعل المجتمع، أتحمل ما يرد في كل مؤلفاتي فأنا أواجه فيها تركيب الأمور. لا يوجد أمر بسيط واحد أبداً، أبداً. في “ذاكرة فتاة” أتشارك هواجسي حول ما عشت.
12-هل كتاباتك عنيفة؟
عُدت “الخزائن الفارغة” رواية عنيفة. ما كان السؤال ليطرح لو كنت رجلاً. تم وصم كتاب “شغف بسيط” بالكتابة الرجالية. تستجلب المرأة كل الصور النمطية للنعومة والهدوء.
13-كيف تختارين عناوين مؤلفاتك؟
أبحث عن الدقة قبل أي شيء آخر. تأتيني العناوين بعد أن أنهي الكتابة. يجب تفادي إيقاع القارئ في الخطأ حول مضمون الكتاب. فرض عنوان “المكان” نفسه فالأمر يتعلق بالحيز الذي يشغله كل فرد في العالم الاجتماعي، بالإضافة لذلك توجد كل العبارات التي استخدمها والداي كـ”امتلاك مكانة جيدة”، أو “ألا تكون في مكانك” والتي أستخدمها حتى اليوم. كنت في مكاني المناسب في المظاهرة ضد غلاء المعيشة.
14-ما الذي فهمته من رسالة ماكرون حين أعلن فوزك بجائزة نوبل للآداب؟
أدى الحد الأدنى من الواجب. أنا أول امرأة فرنسية تحصل على جائزة نوبل للآداب، ألا يشير لذلك فهو أمر صادم للنساء. لا تتناسب الإجراءات الحكومية مع ظاهر السياسات حول قضايا النساء، كل شيء متعثر. لا توجد إرادة. دون الحديث عن باقي المجالات.
15-ما رأيك فيمن رموك بتهمة “اليسار الإسلاماوي” حين دافعت عن الحجاب، ومعاداة السامية حين انتقادك لإسرائيل؟
أواجب عليّ الرد على اتهامات غير مبنية. علينا أن نعارض سياسة إسرائيل، سياسة ناتنياهو تحديداً، والدفاع عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة دون أن نتهم بمعاداة السامية. من جهة أخرى أعيش بمدينة “سيرجي” في بيئة كوسموبولية، مزيج الفتيات المحجبات وغير المحجبات هو ما أراه يومياً. أنا من أجل حرية النساء وهي مفقودة في إيران.
16-يتحول الناس شيئاً فشيئاً نحو اليمين السياسي. كيف تفسرين تمسكك المتزايد باليسار، منذ نشأتك في “ايفتو” ب “لا اوت نورموندي”؟
أدافع دوماً عن ساندرين روسو، إنها مقدامة. تعبر بطريقة عنيفة ولكن لم تكن لتُعاتَب لو كانت رجلاً. من الضروري العودة لنشأتي حتى يُفهم التزامي. حيزي كان مكوناً من بقالة، مطبخ صغير جدا، قهوة وغرفة كبيرة. كنت في احتكاك مع والدي، اللذين اشتغلا كعاملين بمصنع ثم تاجرين صغيرين، وأشخاص يعيشون بؤساً شديداً. كانت أمي بمثابة المساعدة الاجتماعية للحي، ولجت برفقتها بيوتاً معدمة. طفولتي هي عالمي.
17-هل اللامبالاة الاجتماعية خطيئة؟
من الصعب على الكثيرين فهم أمور لم يبصروها. لا يعد “زولا” كاتباً في بعض الأوساط، أما أنا فتزعزني رواية “لاسوموار”. يجب أن نكون قد عايشنا طويلاً، رأينا أو لامسنا مسائل. نتفتح على كثير من الأمور حين نعتني بالمهاجرين. حين يعترف لك فتى أنه لم يعد بإمكانه النظر في الماء لأنه ظل ست ساعات متواصلة في البحر متسائلاً إن كان سيتم إنقاذه… في القرى التي لا يوجد فيها أجانب، يكثر الانتخاب لصالح اليمين المتطرف. يشرح الجهل الكثير من الأمور.
18-هل بإمكانك قضاء يوم من دون قراءة أو كتابة؟
أكتب يومياتي وأقرأ كل يوم.
19-ستنشر يومياتك من طرف المكتبة الوطنية الفرنسية بعد وفاتك. هل تتوقعين أن تتغير الصورة عنك؟
ضرورة. أمارس كتابة آنية، سيجدون حياة بمكانة كبيرة لقصص الحب ولحياتي الزوجية. سيتمكنون من رؤية ما عشته خلال ثلاثين سنة، وكيف تغيرت نظرتي لما عشت بسن الخامسة والسبعين. ستكون بمثابة رواية حياة.
20-هل أنت عاشقة؟
نعم.
21-هل أثرت نظرة ولديك فيما تكتبينه؟
فعلت في بعض مراحل حياتي. ولكن لا شيء يقف في وجه حريتي ككاتبة أولا.
22-ألم يكن والدك الغائب الاكبر عن وثائقيك العائلي “سنوات سوبر 8” والذي كان قد توفي وقتها؟
كان كل شيء ليكون مختلفاً لو ظل والدي على قيد الحياة. لم تكن أمي لتنتقل للعيش معنا، وهو الأمر الذي أرادته بقوة. لكن وحتى استخدم كلماتها، انتبهت أنها لا تتلاءم مع الديكور. كنا نستضيفها ولكن لم تكن على سجيتها. كان لأمي مثلا صوت قوي بلكنة نورمادية. لم أكن انتبه للأمر لأنها والدتي. لكن في يوم انتبهت للأمر وأنا اتحدث اليها على الهاتف. تجلى أمامي جسدها، حركة يدها فجأة. لم تكن أمي لتهتم بالأشياء، في الوقت ذاته كانت مهووسة بأن “تظهر بشكل لائق”، كما كانت تكرر. أحب ابناي جدتهما. أحس بالذنب تجاهها.
23-تقولين في “سنوات سوبر 8” أنه يفضل تجنب التفكير في الشيخوخة والموت وإلا فقدنا الأمل. هل باستطاعتك تجنب الأمر؟
آمل في امتلاك الحق في الموت بكرامة، حتى وإن لم أكن متأكدة من أني سأستخدم هذا الحق. يجب إثارة نقاش حول القضية، يبدو لي هذا الخيار متماشيا مع حقوق الإنسان. هنالك منعطف في الإحساس بالموت أحدده شخصيا بسن الثمانين. نعي حينها أن المستقبل لم يعد مفتوحاً. لطالما علمنا باستحالة خلودنا، ولكن نعي الأمر بقوة أكبر. نرى باستمرار أشخاصاً يموتون حولنا، أقارب ومعارف، حتى الأصغر سناً. إنه أمر أشبه بالوقوف أعلى شجرة تتساقط منها الأوراق. إنني على شجرة تتساقط أوراقها أكثر فأكثر. لكن تربطني بالموت علاقة سلام. فعلت بحياتي ما شئت: الكتابة. يسهل الموت حين نملك أولاداً وأحفاداً. ورَثنا أمراً يعيش بعدنا.
24-السطحية هل هي أمر تعرفينه؟
لا، أحس أحيانا بانعدام الجاذبية. زرت فينيسيا ثماني عشرة مرة وأنا سعيدة بالأمر. إنها النعيم الأعظم. حين يغادر السواح، مساءً، يتولد لدينا انطباع بالجمود. لكن لست سطحية المزاج عادة. أنا ملتزمة.