د . محمد حبش – الناس نيوز ::
إنه المنهج الذي اتبعه البعث القومي خلال ستين عاماً، تحت عنوان السيادة الوطنية والوحدة القومية، وفي سبيل ذلك قام بالقضاء على هويات كثيرة كانت سائدة في سوريا، وبدلاً من التغني بالجمال السرياني والكردي والأرمني والشركسي إلى جانب العربي، راحت البلطجة القومية تطلق النار على كل ثقافة أخرى وتلزم الجميع نصاً واحداً ولساناً واحداً ولوناً واحداً، وبات الاحترام للدور العربي لا يتأتى إلى من خلال طمس الهويات الأخرى، وازدرائها وتبخيسها، والترويج الشيطاني لضلالها وغوايتها وبؤسها.
ربما وجد الشوفينيون من دعاة البعث القومي قدوة لهم في الصين التي تتبع منهجاً شمولياً ماحقاً للثقافات الأخرى، وتمنع أي ثقافة أخرى أن يكون لها مرجعية خارج الحدود، وهو ما تسميه التصيين Sinicization وهو الأسلوب الصارم الذي يتيح للقوميات الاندماج في حوض الصين العظيم، ويمنع عنها الولاءات الخارجية، حيث لا مكان في الصين لثقافة وافدة، ومع ذلك فقد تقبل أن يكون الصيني مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً، ولكنها تشترط مرجعية صينية، في الإدارة والمنهج والتفكير.
ولكن هذا الأسلوب الذي ينتهجه عتاة التصيين قد يكون له ما يبرره في بلد يقارب سكانه ملياراً ونصف، ويعود بتاريخه إلى إنسان بكين الأول قبل مليون عام، ويمتد على مساحة تتجاوز ضعف مساحة أوربا، وله تاريخ متصل يمتد أربعين قرناً، ولغة واحدة وتعرف الماندرين الآن بأنها أكثر لغة في العالم يستخدمها الناس كلغة أولى.
ولكن البعث القومي طبق أشد من هذه السياسات في رقعة من الأرض ملكها بالحديد والنار، لم ينجح معها في تحقيق أي دمج قومي إلا على طريقة صدام حسين في احتلاله للكويت، وهو التوحيد الأبله الذي قاد العرب إلى أشد الكوارث السوداء خلال تاريخهم وأدخل المنطقة في جحيم من الحرب والموت لا يزال ملتهباً إلى اليوم.
وحين كان البعث العربي يعجز عن تكوين حزب قومي في بلاد عربية أساسية كمصر والسعودية والمغرب، فإنه كان يستخدم أشد البطش في فرض رؤيته القومية على التراب السوري وعلى الأفراد والقرى والمدارس والمؤسسات التعليمية والجامعية، ويفرض هوية جديدة على القرى والبلدات التاريخية ويعيد تسمية الجبال والسهول والأنهار رغماً عن تاريخها الملون بلون واحد أصم لا يقبل أي تشكيل طبيعي، بل أوجب على الجميع التخلي عن تراثهم وتاريخهم وثقافتهم ومقابلة ذلك بالتسخيف والتجهيل والريبة تحت عنوان حماية الوحدة الوطنية.
وفي سبيل هذه الوحدة الوطنية أطلق البعث العربي أول إنجازاته في قانون حماية الثورة 1965 الذي نص بصراحة لا مواربة فيها على عقوبات باطشة تحت عناوين عائمة تحتمل كل تفسير، ولكن التفسير الوحيد المعتمد هو تفسير فروع المخابرات مثل: وهن عزيمة الأمة، وضعف الشعور القومي، ونص بالحرف في المادة الثانية
يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام مرتكبو الأفعال التي تعتبر مخالفه لتطبيق النظام الاشتراكي في الدولة سواء أوقعت بالفعل أم بالقول، أم بالكتابة أو بأية وسيلة من وسائل التعبير أو النشر.
أما قانون العقوبات 148 لعام 1949 فقد نصت المادة 285 على عقوبات الأشغال الشاقة المؤقتة على من قام بدعوة ترمي إلى إضعاف الشعور القومي.
أما المادة 286 فهي تعاقب من نقل أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة، وتبقى هذه المواد عائمة واهمة، وكذلك تحديد الصدق والكذب فيها، ويتولى تفسيرها في النهاية الفقيه المخابراتي المتخصص بوهن عزيمة الأمة ومستوى الشعور القومي!
وبدلاً من الخجل من هذه القوانين المعيبة التي تدخل تعابير الشعر في نصوص القانون، وتلغي ثقافات وعادات وقيما وفضائل، وفصولاً كاملة من تاريخ سوريا، فقد تم تشديد هذه المواد عام 2012 وحدد القانون الجديد عقوبة لكل شخص يذيع أنباء كاذبة أو مبالغاً بها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها، وكل شخص يُذيع أنباء من شأنها تحسين صورة دولة معادية للمساس بمكانة الدولة السورية، بالحبس ستة أشهر على الأقل.
ويُعاقب القانون كل شخص كتب أو نشر خطاباً يدعو فيه إلى اقتطاع جزء من الأرض السورية أو التنازل عنها، بالحبس سنة على الأقل.
وفي سياق كهذا رفعت فيه عقوبات الإعدام والمؤبد في وجه كل من يحمل هوية مختلفة، فقد تحول الوطن كله إلى لون رمادي كئيب، وتم بصرامة منع كل الظلال الخضراء والحمراء والزرقاء، ليغدو الوطن ممنوعاً على الثقافات التي انبثقت من أرضه واغتنت في رياضه ونيروزه، وتم اختصار فلسفة الوطن بتعبير معياري: كلنا عرب، والعربي هو من تعلم اللغة العربية، وسيلزم بذلك كل السكان ولا داعي أبداً إلى أي لغة أو ثقافة أخرى، وفي مرحلة لاحقة اختار تعبيراً أكثر شمولية: كلنا بعثيون فمنا من هو بعثي بالولاء ومنا من هو بعثي بالانتماء!!
هكذا وبجرة لسان واحدة صار الجميع مطالباً بالتخلي عن تاريخه وهويته وإبداعه وفنونه وتراثه، والانغماس في المشروع القومي العربي الموحد العابر للقوميات والمذاهب والقبائل والأديان.
ولكن هذ كان هذا السلوك تعبيراً عن حاجة الناس وإرادتهم؟ وهل عاد على الناس بالفائدة والخير أم أنه عمق الانقسام الوطني وزرع الشقاق بين أبناء الوطن الوحد وأعاد تقطير المنطقة ببارود الكراهية
كان على صانع القرار في هذا الوطن المعذب أن يقوم بدوره الواضح في حماية الهويات وتأمين تفاعلها ونشاطها وتنوعها، فهي التي ترسم لوحة الوطن القزحية وهي التي تضفي الجمال والأمل في وطن معذب منكوب.
هي في المقام الأول مسؤولية التربية والتعليم أن تطوف بالوطن الجميل في حقوله وبساتينه ومساجده وكنائسه وخيامه ومزاميره فتبحث عن كل جميل، في الآباء الكبار الذين نشروا فضائل والمروءة والشهام في سوريا، وعن الأعياد والقيم والتقاليد والأفراج التي يغنيها السوريون لترويجها بكل ما فيها من تنوع ولهجات، بدلاً من إرغام الناس على لغة واحدة ولسان واحد.
من حق السوري أن يتعرف على أعلام الميديين والحثيين والسريان والكرد والآشوريين والكلدانيين الذين سكنوا هذه الأرض وتركوا فيها أوابدهم، وأن يحمي لغاتهم ولهجاتهم وثقافاتهم من الاندثار، بدلاً من مطاردة هذه الثقافات واعتبارها تهديداً للنسيج الاجتماعي.
حتى في حياة النبوة الأولى فإن الرسول الكريم أكد انتماء كثير من أصحابه لأمم مختلفة وقال بلال سابق الحبشة إلى الجنة وصهيب سابق الروم وسلمان سابق فارس ولقمان حكيم السودان، وفي التراث القرآني فإن المفسرين قاطبة أشاروا إلى خمسة وعشرين نبياً مذكورين في القرآن الكريم هم أنبياء المنطقة بين الفرات وبين النيل، وقد أعلن المفسرون دون تردد أن أربعة فقط من هؤلاء الأنبياء هم من العرب، فيما 21 منهم من غير العرب، فالمنطقة غنية ومتفاعلة وناشطة، وهي تحمل كل هذه الثقافات ومن الواجب أن نحييها لا أن نطمسها، ووجود لغة وطنية أو قومية لا يعني تخوين ما في الوطن من لغات وعادات وتقاليد وأعياد، بل إن إحياء الهوية المحلية شرط لقيام الهوية الوطنية الجامعة التي تقوم على التشارك والتكامل والتعاون وليس على الطمس والإبعاد والإلغاء.
لعل من أروع ما قاله فيكتور هيغو:
لا تغير نفسك لتشبه الآخرين ولا تجعل الآخرين يغيرون أنفسهم ليشبهوك، لقد خلقنا لنتكامل لا لنتماثل…
الاختلاف أيضاً هو جمال جديد.