fbpx

الناس نيوز

جريدة إلكترونية أسترالية مستقلة

رئيس التحرير - جوني عبو

Edit Content
Generic selectors
Exact matches only
Search in title
Search in content
Post Type Selectors
Filter by Categories
آراء
أخبار
أستراليا
إدارة وتكنولوجيا
إعلان
اقتصاد
اقتصاد أستراليا
اقتصاد عالمي
اقتصاد عربي
تقارير وتحقيقات
ثقافة وفنون
حكايا
خبر رئيس
رياضة
رياضة أستراليا
رياضة عالمية
رياضة عربية
سياحة وسفر
سياسة أسترالية
سياسة عالمية
سياسة عربية
صحة
صور
عدسة
فن الناس
في الوطن الجديد
فيديو
كاريكاتير
لايف ستايل
متفرقات
مجتمع
مجتمع الناس
موضه
Generic selectors
Exact matches only
Search in title
Search in content
Post Type Selectors
Filter by Categories
آراء
أخبار
أستراليا
إدارة وتكنولوجيا
إعلان
اقتصاد
اقتصاد أستراليا
اقتصاد عالمي
اقتصاد عربي
تقارير وتحقيقات
ثقافة وفنون
حكايا
خبر رئيس
رياضة
رياضة أستراليا
رياضة عالمية
رياضة عربية
سياحة وسفر
سياسة أسترالية
سياسة عالمية
سياسة عربية
صحة
صور
عدسة
فن الناس
في الوطن الجديد
فيديو
كاريكاتير
لايف ستايل
متفرقات
مجتمع
مجتمع الناس
موضه
Edit Content
Generic selectors
Exact matches only
Search in title
Search in content
Post Type Selectors
Filter by Categories
آراء
أخبار
أستراليا
إدارة وتكنولوجيا
إعلان
اقتصاد
اقتصاد أستراليا
اقتصاد عالمي
اقتصاد عربي
تقارير وتحقيقات
ثقافة وفنون
حكايا
خبر رئيس
رياضة
رياضة أستراليا
رياضة عالمية
رياضة عربية
سياحة وسفر
سياسة أسترالية
سياسة عالمية
سياسة عربية
صحة
صور
عدسة
فن الناس
في الوطن الجديد
فيديو
كاريكاتير
لايف ستايل
متفرقات
مجتمع
مجتمع الناس
موضه

جريدة إلكترونية أسترالية مستقلة

رئيس التحرير - جوني عبو

سوريات في السجن اللبناني: “لا غالب إلا الله” (1)

ميديا – الناس نيوز ::

درج – ليلاس حتاحت – هذه الحلقة الأولى من ثلاث حلقات، تروي فيها الصحافية السورية ليلاس حتاحت، شهادة عن تجربة مؤلمة عاشتها في سجن لبناني أمضت فيه سبعة أيّام بلياليها، بعد اكتشافها تلفيق تهمة لها حين كانت في أوروبا، باستخدام اسمها وجواز سفرها السوري.

وجب التنبيه إلى كلّ السوريين، قبل الدخول إلى الأراضي اللبنانية وتحديداً مطار بيروت، أن جواز السفر الأوروبي لن يحميكم، والجنسية الثانية لن تجعلهم يتغاضون عن كونكم سوريين. قد تظنّ أن سجلّك نظيف، لكن يا عزيزي أودّ أن أنصحك بأن الأمر لا يتعلّق بحُسن سيرتك وسلوكك، ولا بما اقترفته يداك، بل بما اقترفه غيرك من دون علمك، كرجالات النظام السوري السابق وأعوانهم في مطار بيروت، والمهرّبين، أو أي شخص قد يستفيد من اسمك أو بياناتك التي انتشرت لسنين طويلة، وأنت تركب البحار فاراً إلى بلدان اللجوء.

أما الحلّ فهو استخراج كشف من الأمن العامّ اللبناني يُثبت بياض صفحتك وربما نيّتك، وللأمانة، تعرّفت على شابّ لبناني موقوف جلس إلى جانبي في غرفة التحقيق، سبق أن استخرج قبل سفره سجلاً عدلياً يفيد بألا حكم عليه، وعلى رغم ذلك قُبض عليه في المطار، بمعنى آخر في لبنان “أنت وحظّك مع الموظّف اللي حـيدقّ الختم”.

“أكره السوريين والفلسطينيين، لقد دمّروا البلد”، هذا ما قاله رجل الأمن في المطار لزميلة عملي الأوروبية، بعدما اقتادني إلى الداخل، وهو ما أربكها وأرعبها، فمن يأخذني إلى المجهول بالنسبة إلي وإليها وإلى عدد كبير ممن يقتادهم رجال الأمن، هو رجل عنصري. كلما سنحت الفرصة لتبادل النظرات معها، كنت أبتسم لأخفّف اضطرابها، كسورية اعتدت على اقتيادي في غالبية المطارات، للتأكّد من هويّتي وجواز سفري وطرح أسئلة لها معنى وأخرى جوفاء فقط للترهيب والإرباك، وكعادتي أضع أسوأ السيناريوهات في ذهني “شو ديّتها؟”، لتخفيف وقع المصيبة والتعامل معها، وفي هذه الحالة ومع الفيديوهات التي انتشرت على السوشال ميديا حول اعتقال السوريين وتوقيفهم وترحيلهم من مطار بيروت، كنت أعتقد أنها أسوأ الاحتمالات، ليفاجئني الضابط بقوله ساخراً:

  ههه هي أهون الاحتمالات.

وشو أسوأها؟

إنو تشرّفي عنّا بالحبس.

ضحكت بصوت عالٍ مستهزئة: يا لطيف، شو اللي هربت منه من 13 سنة بدي إرجع لاقيه؟.

ومن شو كنت هربانة؟

من نظام الأسد واللي شادد ع إيدو بمطار لبنان… على كلٍ مالي عاملة شي لخاف.

والله الورق اللي قدامي بقول إنك عاملة.

ما زلت حتى هذه اللحظة أبتسم معتقدة أنه من الضباط العنصريين الذين يتلاعبون بي كسورية كارهين وجودي، ليطربني أحدهم بقوله: “ما صار عندكن مطار ما تحلّوا عنّا بقى”. طبعوا بعض الأوراق، تغامزوا في ما بينهم، كنت أجلس بتعالٍ بعض الشيء، لغة جسدي هي طريقتي الوحيدة لإعلان تمرّدي عليهم، أو بالأحرى تحدّي سلطتهم، كتفاي مشدودتان، رأسي مرفوع، ساقاي ملتفتان فوق بعضهما بعضاً بأناقة. أرتدي تنورتي القصيرة من دون محاولة مواربة قدميّ أو تغطيتهما، أغضبني تلصّصهم أو مباشرتهم بالنظر، خصوصاً المبتسم صاحب الخاتم الذهبي الفاقع، الذي يحكّ أذنه بظفر خنصره الطويل جداً كلما نظر إلى جسمي، ليعرض عليّ رفقته في زيارتي هذه. كان يسخر مني، فالأوراق بيده وتهمتي جاهزة بحكم غيابي منذ العام 2014.  

قرّروا نقلي إلى غرفة الضابط المحقّق في المطار ومعي مجموعة من السوريين واللبنانيين، بدأت الأجواء بالتوتّر مع دخول الضابط المحقّق وهو يصرخ بأعلى صوته فيتناثر لعابه في الهواء. أمرنا بوضع الموبايلات والأجهزة الإلكترونية على الطاولة، والجلوس من دون حركة أو نفس: “صوتكن ما بدي إسمعه، عيونكن بالأرض فهمتوا إنت ويّاها”. 

شعرت بالإهانة، يبدو أن عشر سنوات من العيش في أوروبا كلاجئة جعلني أشعر بآدميتي، وعادت حساسيتي تجاه هذه الممارسات إلى حدّها الإنساني الطبيعي. ربما نسيت كيفية تجنّب مثل هذه المواقف، مواربتها، دفع الغالي والنفيس للخروج منها، أو استخدام كافّة المعارف من أصحاب النفوذ قبل وقوعها حتى. ففي بلاد تنعدم فيها القوانين أنت عرضة لأي تهمة، خطر، انتقام، خطأ… قد يكلّفك خسارات تبدأ بسنين من عمرك، سمعتك، مالك، لتطال أحياناً أهلك وأحبابك. 

المهم إحساسي بقيمتي وبكرامتي دفعني للالتفات إلى الضابط وبكل هدوء وجدّية، مع رفع حاجبي الأيمن وبسط كفّ يدي كمن يوقف الآخر عند حدّه: “لو سمحت، إنت ليه عم تصرّخ علينا، بتقدر تعمل شغلك بهدوء وبالطرق القانونية بدون ما تقلّل أدب معنا، مافي داعي للصوت العالي والإهانات”. 

اتّسعت عيناه إلى أقصاهما، نقّلهما غير مصدّق بين عينيّ وكفّ يدي، اقترب بجسده مني، فحاولت ألا أخطو إلى الخلف محافظة على ثباتي، رغم خوفي حينها، خوفي من عدم قدرتي على ضبط نفسي، والتصرّف بفطرتي التي تهاجم في لحظات الخطر.

رفع كفّه فرمشت عيناي ظناً بأنه سيصفعني، ليضعها خلف أذنه ويميل برأسه نحو شفتي: “نعم شو تفضلتي قلتي؟ سمعيني حسّك لشوف”. تسمّرت في مكاني، الفتاة المحتجزة الأخرى خلفه تضع أصابعها على فمها في إشارة لتهدئتي وإسكاتي، فالعقوبات غالباً ما تكون جماعية… “إذا مو عاجبك هون بزتّك”، التفت حيث أشار، وإذ بها زنزانة صغيرة أشبه بممرّ وباب حديدي.

 استدرت معطية إيّاه ظهري متّجهة نحو كرسيّ الجلوس، لأعود وأجلس بأسلوب التعالي نفسه، أتمتم بابتسامة ساخرة: “لا حول ولا قوّة إلا بالله”. أشار بإصبعه أن أقف، صرخ منادياً باسم أحد مساعديه: “بتاخدوها بتفتّشوها تفتيش دقيق… بس هي”؛ هي يعني أنا، فقط أنا. بدأ الألم في رقبتي، وهو ألم اختناق الكلام، الصراخ، الغضب، واحتباس الدموع، هو ألم لطالما رافقني في لحظات مُهينة لم أستطع الردّ فيها أثناء حُكم الأسدين، ولطالما حملت ذنب عدم الردّ أو الخوف.

في تلك الأثناء استطاع زملائي في العمل التحرّك بسرعة والتواصل مع المحامية، كان لا بدّ أن يُفصحوا عن طبيعة عملنا كجهة إعلامية ليسمحوا لهم بالتحدّث إلي، أعطوني الرقم وأنا متّجهة نحو التفتيش، اطمأنوا علي، حتى هذه اللحظة لم يعرف أحد منّا ما هي تهمتي. 

بالمناسبة، رغم استخدامي جواز السفر الأوروبي، فإن أصولي العربية أو السورية تحديداً، أعطتهم تصريحاً للإهانات التي ستتوالى تباعاً. 

تضحك ملء فمها، لم ترتعد ولم تتوسّل، فطلب أن يرسلوني إليه ليتولاني، ويبدو أنه كسب الرهان، ولم أعد أستطيع الابتسام. اعتقدت أني تجاوزت خوفي منذ سنين طويلة، إلا أن ذاكرة الخوف لا تحتاج إلا إلى هزّات ارتدادية كهذه، يرتجف لها الجسد فتُحدث تصدّعات تُتيح لمخاوف الروح وأشباحها أن تخرج وتُسيطر.
“محاميتك بينّا وبينها تار”
وأخيراً سمحوا لي بالاتصال بالمحامية التي تدبّر أصحابي وزملائي في العمل رقمها، وقالوا إنها من أفضل المحامين الذين يتولّون قضايا الإعلاميين، وبمجرّد أن سمع الضابط باسمها، صرخ مستهجناً: “هيدي محاميتك؟؟!!! هيدي في بينّا وبينها تار”، ولم أكن أعلم أنها من المحاميات الناشطات في مجال حقوق الإنسان والإعلاميين، لكن يبدو أن مجرّد ذكر اسمها أغضبهم، مما زاد من توتّري وخوفي من تعقيد قضيتي التي لا علم لي بتفاصيلها بعد.
تحدّثنا إليها، فأخبرته بأن تهمتي سقطت مع الزمن بعد مرور ١٠ سنوات، وعليه، باستطاعة الضابط إطلاق سراحي، إلا أنه أصرّ على توقيفي. في هذه اللحظة استحضرت أحد المشاهد الشائعة في الأفلام المصرية، وأنا أؤكّد للمحقّق براءتي، وأني مظلومة، وأحلف بكلّ الأنبياء أني لم أقم بأي مخالفة للقانون. ويبدو أن المحقّق قد شاهد الفيلم نفسه فكان المشهد اللاحق، وضع الأصفاد في يديّ، ونقلي بسيارة نقل المحتجزين (بأقفالها وشبكها وبابها الحديدي) وبالطبع لا أعرف إلى أين،
لكن من نقلني لم يحرمني من تحليلاته السياسية حول سوريا ورغبته في معرفة الضفّة التي أقف إلى جانبها، أو ربما لم يكن مهتمّاً إلا بالسخرية والتشفّي: “مبسوطين ع الإرهابيين اللي لبسوا بدلات بسوريا؟”.
“لا غالب إلا الله”
في عام 2012 هربت من سوريا عن طريق لبنان خوفاً من السجن، ومن لبنان إلى بلدان عدّة وصولاً إلى أوروبا، التي حصلت على لجوئي السياسي في إحدى دولها، مع قرار حصولي على جنسية البلد المقيمة فيه، وبعد عشر سنوات في أوروبا سقط نظام الأسد، وتحرّرت البلد وتحرّرت معها أرواحنا، وبما أني أؤمن بالمصادفات وأستمتع بالإسقاطات، خصوصاً إن أردت إعطاء الأمر بعض الأهمية والأبعاد التي قد لا تحتملها أساساً، لكنْ فيها شيء مُرضٍ بالنسبة إلى مخيّلتي، مريح ويبعث على الابتسام في بعض الأحيان، كأن تكون الرحلة الأولى بجواز السفر الأوروبي بعد حصولي على الجنسية إلى دمشق، ستُفتح أبواب الدول لي، لم أعد أحمل وثيقة سفر اللجوء، ولا أملك جواز سفر سورياً منذ انتهاء صلاحيته في عام ٢٠١٤، التقيت في المطار بأصدقائي وزملاء العمل الذين أسافر معهم، أثرثر من فرط التوتّر والفرح، ونتشاور حول المطعم اللبناني الذي سنأكل فيه الكبّة النيّة، ونشرب العرق قبل دخولنا إلى سوريا في مهمّة العمل.

فشلت المخطّطات ونمت ليلتها في سجن “النظارة” الانفرادي، ولكن قبلها وبعد وصولي إلى مقرّ أمن شعبة المعلومات، استقبلني شابّ في غاية اللطف، طلب تفتيش أغراضي، وقال لي إنه لا علم له بأي شيء، لا يوجد أحد ليحقّق معي اليوم، سيتمّ نقلي إلى سجن الأمن العامّ، طلب مني ألا أخاف وألا أستمع لما ستقوله الفتيات هناك. لا بدّ أن قضيّتي مختلفة، يبدو أني كنت بحاجة إلى شخص يطمئنني، بدأت بالبكاء، هذه المرّة شعرت بدموعي، وأنا أتوسّل إليه بأن يسمح لي بإجراء مكالمة مع أطفالي. لم يعتادوا انقطاعي عنهم أو عدم إمطارهم برسائل الحبّ والتطمين، التي أعرف في قرارة نفسي أنها رسائل تذكير بوجودي في حياتهم. غيابي سيُقلقهم، أو ربما أردت سماع أصواتهم لأُدخل الطمأنينة إلى قلبي. رفض بسبب القانون واحترمت رفضه.
كان لا بدّ أن يضعني في إحدى الغرف ويقفل الباب، اعتقدت أني سأنام هنا، بدأت أتشوّش ولا أفهم إن كان هذا السجن الذي قصده، أم سيتمّ نقلي لاحقاً. استلقيت على المقعد الخشبي الطويل الذي يتصدّر الغرفة، كان ضيّقاً جدّاً فتكوّرت على نفسي فالبرد قارس، ضممت قدميّ إلى صدري، ولففت معطفي حولي. عقلي مشوّش وعادة ما يهرب بالتلهّي بأي تفصيل يشغله، بدأت بقراءة ما حُفر على الحيطان، الكثير من الدعاء بالفرج، والدعاء على من ظلم، شتائم تطال الأمن اللبناني، تهم بالعنصرية، رقم محامي لبناني، أرقام هواتف برموز دول متعدّدة.
واللافت أسماء الدول التي كتبها أصحابها بدلاً من أسمائهم، فهم على قناعة بأنهم في سجن يرى الجنسية ويحكم من خلالها، قبل معرفة أسمائهم أو من يكونون. سوريا بكلّ اللغات كانت مكتوبة، تكرّرت في كلّ الاتّجاهات والارتفاعات، أثيوبيا، أسبانيا… وفوق كلمة أسبانيا الجملة التي أُخذت بجمالها وقوّتها حين رأيتها محفورة على جدران قصور الأندلس ومساجدها، ولطالما بحثت عن عقد أو سوار مكتوب عليه هذه الجملة، لأراها ببساطة أمامي على جدار السجن تأخذ المساحة الأكبر، وأنا المغرمة بالإشارات وإسقاطاتها طبعاً. تسمّرت في مكاني وأنا أقرأها بصوت عالٍ لأسمع وقعها على روحي كتميمة تحميني طوال الأسبوع، الذي قضيته متنقّلة بين السجون اللبنانية “لا غالب إلا الله”.

أعلام الدول بدلاً من أسمائها
تأخّر وصول الملفّ، الحكم صادر من البقاع، وسيتعذّر على المحامية إنهاء الإجراءات في اليوم التالي (الجمعة) فدوائر الدولة تعمل نصف يوم، هذا يعني بقائي عطلة نهاية الأسبوع في السجن. الخبر الأسوأ أن القاضي لا يعمل سوى يوم في الأسبوع، يوم واحد، وباقي الأسبوع على أي موقوف أن ينتظر، أسبوع، شهر، أشهر، سنة لا يهمّ.

سُئلت في التحقيق ما إذا أعطيت البيانات الخاصّة بجواز سفري السوري لأي شخص في الماضي، وكحال الكثير من السوريين طبعاً فعلت حين رفضت السفارة السورية تجديده لأسباب أمنية، وتلقيت وعوداً من معارف وأصدقاء أن أحدا يعرف أحد باستطاعته تدبر الأمر، لكنه لم يفلح ولذلك اضطررت لتقديم طلب لجوء في أوروبا منذ سنين طويلة. لكن يبدو أن هذا الأحد قد استخدم بياناتي وقام بعملية تزوير وأُرسل الجواز من شخص لآخر في لبنان ليتم تسليمه للأمن العام.

وبغض النظر إن كانت مكيدة للإيقاع بي وتسليمي للنظام السوري السابق، أو عمل مهربين، أو أي نظرية أخرى، إلا أني كنت جاهلة تماماً بأن صاحب العلاقة المقيم في لبنان قد تمت تبرئته وتلقّيت أنا ومجموعة من السوريين أحكاماً غيابية بالسجن، أحكاماً لم أعلم بها، ولا كيف حصلت، ولا من وراءها في التوقيت نفسه الذي كنت أعيش فيه أسوأ أيّامي مع طفليّ الصغيرين في مخيّمات اللجوء الأوروبية.

براءتي واضحة، لم أستلم أو أسلّم، لم أستخدم هذه الوثيقة يوماً، لكنّ القاضي يحضر يوم الثلاثاء فقط، لذا لا بدّ من الانتظار في السجن (عرفت لاحقاً أن بعض القضاة لا يتجاوز راتبهم الشهري 40 دولاراً، لذا من الطبيعي أن يستهتروا بالتزاماتهم تجاه هذه المؤسّسة، ولكن ماذا عن استهتارهم بنا كبشر؟).
كان محقّقو شعبة أمن المعلومات بمنتهى الحرفية والأدب في التعامل، لكن ما باليد حيلة، لا بدّ من انتظار القضاء وبالتالي العودة إلى السجن. طلبت من صديقتي إحضار مخدّة ولحاف وكتاب، لأضمن صحّة عقلي في المنفردة التي قضيت ليلتي الأولى فيها على الأرض من دون طعام أو شراب أو غطاء، ولا أتذكّر منها سوى صقيعها ومجموعة من رجال الأمن عند دخولي مكتبهم، وهم يتحلّقون حول الطاولة التي ارتفع عليها جبل من قشر بذور دوار الشمس، الذي اكتشفت فيما بعد أنه وسيلة التسلية الوحيدة في السجن، للسجّانين والسجناء، ورائحة أروقته وزنازينه.
ثلاث أعطيات من صديقتي أمنّت لي دفء الجسد والروح والعقل لمحاربة صقيع التجربة، مع الكثير من الحبّ.
أعادوني إلى السجن، هذه المرّة اكتشفت أن إقامتي ستكون مع 25 سجينة أخرى، لم يخبرني أحد ما هي طبيعة هذا السجن ومن هنّ المحتجزات؟ وهل لديهن قضايا عالقة مثلي؟ مجرمات؟ بريئات؟ مظلومات؟
فتح “الباش” (كما ينادونه، وهو الشرطي المسؤول) باب السجن، وإذ بالفتيات يقفزن نحوه، يصرخن، يسألن، يبكين ويتوسّلن… عدت إلى الخلف مذعورة، نظرت إليه بتوجّس راجية أن يُعيدني إلى المنفردة، فردّ ساخراً: “فوتي فوتي… حتتسلّي جوّا”، وللأمانة تسلّيت بعد زوال الصدمة الأولى.
تعالي فوتي نصنا سوريات هون. أهلاً وسهلاً؟
مين سورية هون؟
شايفة هالصبيّتين مع البنت الصغيرة هدول أكراد من عفرين، انمسكوا بباسبور مزوّر، بدّن يهربوا ع أوروبا عند أهلن هونيك.
والحاجّة اللي قاعدة لحالها عم تقرأ قرآن بالزاوية، كانت طالعة عند ولادها ع ألمانيا من عشر سنين ما شافتن.

وأنا كنت طالعة عند جوزي، وكان معي إقامة أوروبية بس خلصت وأنا بسوريا، جدّدتها عن طريق مكتب، طلعت الله لا يوفقه مزوّرة.
والصبية بالتخت الفوقاني، اللي عم تبكي لحالها، هي حزينة هربت من السعادة يلّي بسوريا، معترة بتشتغل بلقمتها هون وما معها إقامة، لقطوها وأهلها حالفين يمين ليدبحوها إذا بترجع. تقترب مني هامسة “أهلها مفكرينها ممسوكة دعارة، بس هي عم تحلف إنه إقامة”.
تناديني الفتاة اللبنانية، وهي حامل في شهرها الثامن – تعالي “عدي” معنا ما تخافي، اسمي جوانا، وإنت شو اسمك؟
يبدو أن ملامح الخوف كانت بادية عليّ، لم أعرف على أي سرير أجلس، كنت أتصفّح الوجوه، أشمّ الروائح، أتلمّس وجود أي خطر حولي، من هي “الألفا” هنا، فالمسلسلات تقول إن لكلّ سجن زعيمة. فكّرت، لست في سجن لمعتقلي الرأي ويجب أن أكون حذرة وذكيّة، إلا أن الأمر كان أبسط من ذلك بكثير، فتيات بسيطات على كافّة المستويات، يشكّلن مجتمعاً متكاملاً، تتنوّع الشخصيّات والطباع والطبقات، والأديان والطوائف والمعتقدات، لكنّ السجن طوّر قدراتهن على التكيّف والتعايش، حتى خلافاتهن وتصادماتهن لا تدوم طويلاً، ففي الأماكن المؤقتة حالة التعاطف مع الآخر هي الطاغية.
بقيت لأيّام أرتدي الملابس نفسها، شعرت بالتصاقها بجسدي، لم يخبرني أحد بظروف المكان، ولا بضرورة إدخال بعض النقود أو الغيارات التي حجزوها في الأمانات.
لا تنامي عالتخت الفوقاني، برد كتير، مواجه للشباك، فينا نتشارك تختي واللحاف تبعك، منام عكس بعض روس ورجلين.
بس التخت مفرد بخاف بالغلط إخبط ببطنك.
لا تخافي ما بتحرّك بالنوم، وإنت؟
كمان ما بتحرّك كتير.
كان ذلك سبباً في عدم نومي الذي لم يتجاوز نصف ساعة متواصلة، خوفاً على جنينها، لكنّ هذا التقارب أعطاني دفئاً غريباً، إحساساً بالحنان والتكاتف. كنت أستيقظ على وجه ريتاج الفتاة البنغلادشية في السرير الملاصق، تدمع عيناها بصمت، ومن دون أي كلمة أُخرج يدي من تحت اللحاف لأضمّها في محاولة لمواساتها، لتُشير لي بأن رأسها لم يعد يتحمّل، وأنها على حافّة الجنون، لا تنطق سوى باسم ابنيْها، وأثناء النهار تُلقي الشتائم على زوجها “جوزي شرموطة”، وعلى الحكومة اللبنانية وعلى فقرها، وتحاول معرفة سبب حظّها العاثر، متسائلة: “هل المشكلة في الكمبيوتر الذي يُظهر أسماء العاملات في لبنان”، ضحكت ملء فمي وضممتها موافقة: “معك حقّ المشكلة بالكمبيوتر”.
سبق أن قرأت العديد من المقالات والتحقيقات التي تتحدّث عن مشكلة العاملات المُستقدمات إلى لبنان، والظلم الواقع عليهن من قبل العائلات والمكاتب، إقامات منتهية الصلاحية، و”مدامات” لا يُردن دفع تكاليف إعادتهن إلى بلدانهن، تهم باطلة بالسرقة أو التحرّش أو فقر الحال وغيرها من الأعذار التي تخوّل الدولة وضعهن في السجن، بانتظار تبرّعات الكنيسة أو سفارات بلادهن لتُعيدهن إلى عائلاتهن المتروكة وأطفالهن في إثيوبيا، و سيرلانكا، وبنغلادش وغيرها، لكنّ واقع الحال أقسى من كلّ تلك التحقيقات الصحافية.
الظلم الجماعي وشراكتهن في المهنة والهمّ، جعلاهن يتوحّدن في وجه أي غريب، الغريب هنا نحن السوريات واللبنانيات، نظّمن أنفسهن بما يشبه الاتّحاد الذي يضمن حقوقهن، ويلبّي متطلبات واحتياجات كلّ ظرف يمررن به، الأحقية في الحصول على مكالمة هاتفية، جمع بعض النقود “البخشيش” لمن تقوم بجلب الأغراض لنا من “بوفيه” السجن، التي نصّبت نفسها كشاويش للزنزانة. إحداهن كانت خبيرة في تجديل الشعر، وهو “ستايل السجن” ووسيلة للملمة الشعر، وحمايته من انتقال القمل. رسمت على رؤوسنا جميعاً ضفائر بطرقات مختلفة، دوائر، خطوطاً مستقيمة، متعرّجة، وهو ما ذكّرني بحكاية هذه الضفائر ومنشأ تنوّع أشكالها، حيث كانت الأفريقيات أيّام العبودية يستخدمنها لرسم خرائط الهروب على رؤوسهن، خوفاً من سماع أصواتهن إن باحوا بها.

ما زلن يرسمن الخرائط حتى اليوم، لكنّ سبل الهرب من هذا السجن تحتاج إلى المال أو الواسطة، لم تعد الخريطة كافية لذا فقدت معناها، ولم يبقَ إلا الصلاة والدعاء. تبقى المؤمنات من كافّة الأديان ساهرات في الليل، بعد أن تنام مجموعات لعب الورق، والمدخّنات ومفصفصات بذور دوار الشمس، إحداهن تفتح الإنجيل، وأخرى تضع غطاء الصلاة وتستغرق في القرآن، تنهمر دموعهن من شدّة الخشوع، وتنهمر دموعي على مظلومياتهن، أو ربما مظلوميتي. لا أعرف لماذا كانت المؤمنات تتخذّن إما الأسرّة العلوية وإما المتطرّفة بعيداً عن تجمّع الكتلة الأكبر في منتصف الزنزانة، ذكّرنني بمقولة صديقي: “رجال الدين والسياسة عرصات دايماً بيبنوا الأديرة والقلاع بمناطق مرتفعة، لتهيمن سلطتها علينا وتراقبنا من فوق”.
كان بعض الفتيات غير مؤمنات، والظلم الواقع عليهن دليلهن على عدم وجود الله، لكنّهن يخفن من التعبير عن آرائهن أمام الغالبية المؤمنة، أما الأقلّيات، فتاة مرشدية وأخرى شيعية، فكانتا تتحصّنان بالأسرّة في الزوايا المعزولة، صامتتين دائماً، تنفخان دخان السجائر من دون توقّف، إلا لتمسحا دموعهما من قهر الفقر وعدم تأمين أموال الكفالة، لا تختلطان مع أحد وتتجنّبان الخوض في قصصهما العائلية، أو انتماءاتهما السياسية أو الطائفية، لم يكن كسر الجليد وضمّهما إلى المجموعة صعباً، كانتا بحاجة فقط إلى الإحساس بالقبول والتطمين، وأنهما ليستا قرباناً ولا مسؤولتين عن تحمّل ذنوب طائفتيهما بكاملها أو الدفاع أو التبرؤ. بمجرّد أن طلبت منهما الانضمام لشرب القهوة معنا (عبارة عن بُن منقوع بالماء الساخن) وتحدّثت كيف أن المرشدية حيّدوا شبابهم عن الحرب الطائفية، ورفضوا تجنيدهم في الجيش سابقاً كي لا يحملوا وزر الدم بين أبناء شعبهم في سوريا، وأن الانتهاكات والقتل الذي حصل بحقّهم من قِبل “هيئة تحرير الشام” في ريف حمص غير مقبول، انفردت أسارير سارية، وراحت تؤكّد سرديتي، ومن ثم انتقلت لتتحدّث عن الظروف التي دفعتها للانتقال إلى لبنان واستغلال طليقها لها، وعدم قدرة ابنتها الوحيدة زيارتها في السجن، خوفاً من اكتشاف الشرطة عدم حصولها على الإقامة اللبنانية وزجّها في السجن، وبدل بلاء تجميع التبرّعات والدين لدفع الكفالة لواحدة يصبح لاثنتين.
زينب كانت الأصعب في الاندماج، أثناء حديثها عن القصف الإسرائيلي على منطقتها واستهداف “السيد حسن”، فجأة صمتت واحمرّ وجهها، سقطت كلمة “السيد” منها سهواً، بدأت بتفحّص الوجوه خوفاً من ردة فعل الغالبية السنية في الزنزانة. حاولت مساعدتها على تجاوز ارتباكها والحديث عن عدوّنا الإسرائيلي المشترك وقصفه وتمدّده في سوريا الآن، بمعنى آخر صدّرت المشكلة إلى سوريا خوفاً من ردة فعل أنجيليك، التي لا تفقه في السياسة شيئاً سوى امتداح “القوّات” وسمير جعجع. في النهاية هناك اتّفاق ضمني غير معلن بين السجينات، بعدم الخوض مطولاّ في السياسة أو الطوائف، وكأنه وعي فطري بضرورة إخماد أي فتيل قد يُشعل الخلاف، أو يزيد من صعوبة العيش المشترك في الزنزانة نفسها وتعقيده.

والمضحك الذي لم يكن مضحكاً آنذاك، بل له صبغة الخشوع والقدسية، أن جميعنا مسلمات ومسيحيات ولا دينيات، من كافّة الطوائف، أمسكنا بأيدي بعضنا بعضاً في حلقة مستديرة، لتتلو ريتا علينا الصلاة التي أرفقناها جميعنا بكلمة “آمين”. ولكن قبل أن أقول آمين طلبت من الله في سرّي حذف جملة لم أوافق عليها في الصلاة، وهو أن ما يحدث قد يكون عقاباً لذنب آخر قمنا به في حياتنا، وندفع ثمنه اليوم لتُغفر ذنوبنا في الأرض، كنت مصرّة أن صفحتي خالية من الذنوب، أو على الأقلّ الذنوب المقصودة، وأرفض أن أُعاقَب بهذا الشكل حتى من الله.
ريتا الفتاة الفلبينية التي تسهر طوال الليل على الإنجيل وشاشة التلفاز المعلّقة عالياً على الحائط، الذي لم ألحظه وأنا المغرمة بقراءة التفاصيل من حولي، لكن إن حضر الماء بطل التيمم، والناس في هذا المكان هي الماء الذي تحاول معهم إغلاق عينيك عن سوء حال المكان وقسوته. لم ألحظ التلفاز فقد كنت محصورة في السرير السفلي، فوقي عتمة السرير العلوي، التي تخفّف عني قوّة الضوء الذي لا ينطفئ ليلاً ونهاراً. وتتدلّى دائماً من الأسرّة العلوية بعض الملابس والمناشف الرطبة، علّها تجف بعد غسلها، أو للتخفيف من رائحة الرطوبة التي تعشّقت فيها وفينا. كنّا نتسلّق أحياناً لنصل إلى الشبابيك المستطيلة العالية، لربط الملابس بقضبانها ورميها باتجاه الخارج علّها تنشف، إلا أن الأمطار والرطوبة والثلج تحول دائماً دون ذلك.
بالعودة إلى التلفاز، ليست فقط الأقمشة المنسدلة وقلّة نظري إلى الأعلى، كانتا السبب في عدم ملاحظتي له، بل لأن الصوت مُعطل، يعني سينما صامتة، ربما كانت ريتا تنظر فحسب في حين كانت مخيّلتها تأخذها إلى فيلم آخر من حياتها السابقة، أو اللاحقة. رغم ذلك واظبت على متابعة الأفلام التي لا قدرة لأحد على التحكّم فيها، أو تغيير القناة، يومياً. هي أفلام قديمة جدّاً، وغالباً ما يقومون بإعادة بثّها في الزنزانات، وعند سؤالي عن جهاز التحكّم عن بعد، باعتبار التلفاز معلّقاً وأقرب إلى السقف، ضحك الجميع وأخرجت ريتا عصا المكنسة الخشبية الطويلة “هيدا هو الريموت… أون آند أوف”.
صرت أكنّ احتراماً كبيراً لهذه الامرأة بعد سماع قصّتها. فقد بقيت في السجن ظلماً لسنتين ونصف السنة، وهي مدّة معالجة القضية لتحصل على البراءة ونالتها. في حين عرضت عليها ابنة زوجها اللبناني، التي حبكت لها التهمة، بأن تُسقطها عنها وتُعطيها بعض المال مقابل أن تنفصل عن أبيها (الزوج) وترحل إلى الفلبين. أما الزوج فيعاني من الألزهايمر، وابنته حريصة على عدم ضياع الميراث أو تقسيمه. لكنّ كرامة ريتا وإصرارها على تنظيف اسمها من هذه الادّعاءات الكاذبة كان أهمّ، حتى وإن قضت هذه السنوات في السجن، من دون امتلاك أي مال يُعينها على البقاء فيه، سوى تعاطف بعض السجينات معها ومشاركتها بعض المال، أو مبلغ صغير قبل رحيل أخريات كـ”حلوان” لحرّيتهن.
اعتقدت كثيرات أنها غبية وغير واقعية، لكنها آمنت أن الله إلى جانبها وإن تأخر عليها سنتين ونصف، في إحدى المرّات أصابها ما يشبه السكتة القلبية وتشنّج الجسم، بدأت تصرخ مستغيثة طالبة من “الباش” تفتيش الفتيات ظناً منها أن إحداهن سرقت ملاذها ومفتاح نجاتها “الإنجيل”، ولم تستوعب أنه مجرد مقلب لإغاظتها، وفي لحظة غضبها اتّهمت أكثر الفتيات صدقاً وروحانية سونيترا، باعتبارها تستعير الإنجيل كلّ يوم لتلاوة صلاتها ورفع الظلم الذي حلّ عليها. ظلم أتى من كفيلتها القاضية، بمعنى أن التهمة حيكت بعناية ضدّها، تعرّضت لتحرّش من زوج القاضية، وأثناء محاولته الاعتداء عليها؛ وهي قوّية البنية، دفعت به محاولة الدفاع عن نفسها فوقع وأُصيب رأسه، فأصبحت تهمتها جاهزة بالاعتداء بالضرب على ربّ عملها، والقاضية التي أطلقت الحكم هي الزوجة!
كانت دموعها ودموعنا والفرحة بإطلاق سراحها وشراء الكنيسة بطاقة الطائرة لعودتها إلى الوطن إثيوبيا لا تُوصف، اشترينا قطع الكيك المغلّف الرخيص والعصير من “البوفيه”، جعلناها تدخّن للمرّة الأولى، أحاطت بطن جوانا الحامل بذراعيها لتشكر الجنين الذي تؤمن بأن الله حرّرها بشفاعته، وقبّلت يد الحاجّة أمينة. كنّا جميعاً نرعى العجوز والحامل، ندعوهما للجلوس معنا، للأكل معاً ولغسل ملابسهما وتلبية احتياجاتهما المقدور عليها. سترحل سونيترا إلى المطار ليلاً، لن ننام اليوم، لا بدّ من الاحتفال والرقص والغناء، تعالت ضحكاتنا فرحاً وكأننا جميعنا فُك أسرنا.
أفرغنا الماء من “السطل” البلاستيكي المخصّص للغسيل، ليتحوّل إلى طبلة تتبع إيقاع مؤخراتهن وهي تهتزّ، اتّسع المكان وتحوّل الممرّ الضيّق بين الأسرّة والحمام إلى منصّة للرقص، صفّقنا وشدّدنا أذرع بعضنا بعضاً للمشاركة في الرقص، نسينا سجننا إلى أن ذكّرنا الشرطي المناوب به، صراخه الذي أسكتنا، بل أخرسنا “إخرسي منك لإلها، ما بدّي إسمع صواتكون ولاااا حرف فهمانة ولي منك إلها”.
ضحكات مكتومة خرجت من أفواه بعضهن مقلّدات سحنته اللئيمة، فوصلت إلى مسامعه ليأتي مهدّداً: “ولأنكن ما بتعرفوا تخرسوا بكرا ما في حدا يطلع يعمل تلفون ولا حدا ياخد مصاري أو غراض من الأمانات”، ومن بعدها وفي الأيّام اللاحقة كلما علا صوت إحداهن، كنّا نذكّرها بإخفاضه خوفاً من العقوبات الجماعية، لكلّ منا ولد أو زوج، محامٍ أو عائلة تربطنا بالحياة في الخارج، وصوت نريد سماعه للاستعانة به على تحمّل المكان.
٢٥ فتاة، يُسمح يومياً لخمسة منا فقط بالتحدّث لدقائق معدودة، كنّا نتحرّق ليصلنا الدور، نتشاجر حيناً ونتقايض على بعض الدقائق الإضافية أو استبدال الأدوار حيناً آخر. كنت الجديدة الصامتة أجنّب نفسي الانخراط في أي عراك، ليس فقط لإيماني بأحقّيتهم بسبب الأقدمية، إنما كنت في حالة استسلام وهدوء، لا طاقة لي على الجدال أو الشجار أو الطلب من الضابط خوفاً من الإهانة أو أن يردّني خائبة.
أتحوّل في هذه المواقف إلى شخص مهذّب جداً كردّة فعل أعلن فيها اختلافي عنهم، نعم أعتبرهم “هم” أي مستغلّي السلطة كغطاء لشرور نفوسهم ومُتعهم السادية بإهانة الآخر، تعذيبه، انتهاكه… أو طريقتهم لتفريغ العنف الذي مورس عليهم، لست بصدد تفنيد الأسباب النفسية لسلوكهم هذا، ما يهمّني ألا أنتقل إلى ملعبهم، همجيتهم لن تجرّدني من مدنيتي. هذا التهذيب حماني في مواقف عديدة، كأن أمنع نفسي حتى من طلب أبسط حقوقي، كيلا أسمع كلمة مهينة من الحراس مثل: “انقلعي فوتي ما بدّي إسمع صوتك”، كانت الفتيات يسخرن من تهذيبي ومفرداتي التي أستخدمها، كأن يُقلدنني عند مناداتي “الباش” ويصفن صوتي بالحنون: “عفواً لو سمحت…” وبالطبع لم يسمعني يوماً، إلى أن تصرخ إحدى الفتيات بأعلى صوتها “بااااااش” وتتركني أمام الباب ليعتقد أني المنادية.
أزمة التهذيب
في الزنزانة أيضاً لم تكن الأجواء دائماً ودودة، كثيرات كن يصرخن، أو يملين أوامرهن علينا، بالتزام الصمت عند رغبتهن في النوم، أو الصراخ أثناء التنظيف، والشجارات على السطل البلاستيكي الوحيد الذي ينقعن فيه ملابسهن للغسيل. كنت أتجنّب أي صدام، لا أملك مهارات بعض الفتيات في الردح، ولست قوّية جسدياً للاشتباك بالأيدي أو شدّ الشعر. كنت متفرّجة في أغلب الأوقات، أجلس على سريري صامتة، أدّعي النوم أحياناً بتغطية رأسي؛ وإن قلّت كمية الأوكسجين، هي لحظات لا أستطيع الابتسام فيها ولا الكلام، أريد مساحتي التي اخترعتها بلفّ الغطاء على كامل جسدي من شعري إلى أخمص قدميّ، شرنقتي التي أحتمي بها.
لطالما كرهت تهذيبي في بعض المواقف، ربما كان التعالي عن الردّ يُرضي غروري ويُشعرني بالأفضلية أحياناً، لكنه لم يشفِ غليلي يوماً. كنت أتمنّى لو صرخت بوجه المحقّق في المطار “بهدلته”، وأي كلمات مواساة عن الذكاء الاجتماعي، وحُسن التصرف وموازنة القوى لن تخفّف من شعوري بالغضب، ورغبتي في الانفجار والإطاحة بمن حولي من الضبّاط، والمحقّقين، والشرطة، من الغمزات والهمزات، من ابتساماتهم الساخرة، وكل ما يمثّلونه من انفلات وتشوّه ليس فقط للقانون بل للأخلاق والقيم ومفاهيم العدالة والإنسانية. للأمانة لا يشمل حديثي جميع من قابلتهم، وهو أمر مؤسف أيضاً، أن يرتبط تطبيق القانون وآليات التعامل بأخلاق الفرد وتربيته وسلوكه ومدى تعاطفه، أو “بالواسطة” وكمية الاتّصالات وقوّة الجهات التي تدعم الشخص الموقوف، وليس بقوانين ناظمة تضمن حقوق جميع الأطراف.
لم أستطع التواصل مع أبنائي، بسبب فرق التوقيت بين البلدين، وذهابهم إلى المدرسة وقت السماح بالمكالمات، شعرت بالحرج من الفتيات عندما ناداني الحارس المناوب وسمح لي بإجراء اتّصال، لم أفهم بمن، قال مع أطفالك. عرفت حينها أن أصدقائي وجدوا طريقة ما لإعطائي بعض الامتيازات، كانت هذه الامتيازات تُحرجني وتُشعرني بالذنب أمام الفتيات، لذا بدأت أستخدمها في محاولة إعطائهن بعضاً من هذه الفرص عوضاً عني، إلا أن هذه المعاملة كانت تتبدّل مع تبدّل الضابط، منهم من علم أني إعلامية ووصلت التوصيات إليه، ومنهم من لم يعلم بها، وكان عليّ استشعار ذلك قبل أن أطلب أدنى الحقوق. كأن نبقى في الممرّ لدقائق أخرى بعد أن يتمّ عدّنا يومياً، وهي الدقائق الوحيدة التي نخرج فيها من الزنزانة نأخذ نفساً عميقاً ونشعر بتيار الهواء المنعش، بدلاً من ثقل الهواء في الداخل المختلط بدخان السجائر وروائح البزر، ناهيك بروائح أجسادنا وأمعائنا بسبب طعام السجن، التي غطت عليها رائحة المجاري من الحمّام في داخل الزنزانة، والملابس الرطبة وروائح العفونة.

كسورية لم أتخيّل يوماً أن مهنة الصحافة تُخيف أي سلطة أخرى في بلداننا العربية، لكن هذه المرّة انتبهت أن ذكر كلمة صحافية أو إعلامية كان يُرافق اسمي أثناء التعريف بي في كلّ مكان أنتقل إليه، أو عند تسليمي من شرطيّ أو محقّق لآخر، وكأنها كلمة السرّ لتحسين المعاملة. فإن نسي أحدهم ذكر هذه المعلومة أخذت نصيبي من القسوة الممارسة على الجميع، واللافت أن الفتيات في سجني الأول كنّ يخبرن من لا يعلم من الحرّاس، إما للشفاعة لي، وإما لاستخدامي في طلب بعض الامتيازات أو الاستثناءات لهن، التي من المفترض أن تكون حقّاً طبيعياً، كالاتّصالات الهاتفية مثلاً، أو الحصول على بعض مسكّنات الألم. كنّ يمازحنهم مهدّدات “منخلي الصحافية اللي هون تفضحكن بس تطلع”، كانت هذه الكلمات تُسعدني، تُدغدغ شعوراً بالقوّة والانتصار على سلطة العنف والصوت العالي، والكلام البذيء وانفلات القانون، ما زالت الصحافة تُخيفهم، يخافون التعرّي الذي يمارسونه علينا من دون وجه حقّ، أما نحن فلا نحتاج إلى فحص مؤخراتهم، تكفينا ملفّاته

في أحد الأيّام كنت أنا وجوانا نتمشّى في المساحة الضيّقة بين الأسرّة والحمّام؛ “مساحة الرقص”، جيئة وذهاباً بسبب المغص الذي بدأ يرافق حملها وحركة طفلها المتكرّرة وركلاته، التي كانت تزيد من خوف بقائها حتى يوم الولادة، وبينما كنّا ننظر إلى باب الزنزانة الحديدي لفت نظري الأعلام المرسومة على الجدران، علم إثيوبيا، بنغلادش، سيرلانكا، الفلبين، علم لبنان، والعلم السوري القديم، ما دفعني لرسم علم الثورة المعتمد كعلم لسوريا حالياً.
هذه المرّة لا توجد أسماء، فقط أعلام، عبارات دينية، آيات قرآنية وأخرى من الإنجيل، الصليب مع المسيح ومن دونه، أبيات شعر عن الذلّ وجور الحياة وغدر الزمان، وفوق الأسرّة رسومات تقضي بعض الفتيات وقتاً في تلوينها وإلصاقها على الحائط بمعجون الأسنان، يُهدونها إلى بعضهن بعضاً أحياناً، فراشات وورود يرسمنها بألوان تُشبه ذوق المُهدى إليها، إلا أن الهدية الأكثر انتشاراً في ما بيننا هي مسهّل المعدة لتخفيف الألم، الفتيات جميعهن يستعصي خروجهن إلى الحمّام، وتحديداً في الأيّام الأولى، لكنّ قصّتي مع الحمّام كانت مختلفة، هي قصّة تحرّش بطفلة دامت لثلاث سنوات متتالية.

المنشورات ذات الصلة